تحقيقات وتقارير

هل تراجع المجتمع الدولي عن الحل السلمي لحرب الخرطوم؟

على رغم تعهد المجتمع الدولي مواصلة مساعيه مع الشركاء في المنطقة لفرض هدنة بالسودان أثناء الحرب بين الجيش وقوات “الدعم السريع”، فإنها لم تستمر للمدة المفروضة منذ بدايتها في 15 أبريل (نيسان) الماضي، كما أنه لم يتعهد إنهاء الحرب بشكل دائم، وتمددت إلى إقليمي دارفور وكردفان، مما يضع كيفية تعامل المجتمع الدولي مع الأزمة السودانية أمام تساؤل ملح. ومع ما يقارب ثلاثة أشهر تحت دوي المدافع والقصف الممنهج كان السودانيون يأملون خلال الهدن البسيطة في أن تتوفر الدافعية اللازمة لتحقيق المبادرات الدولية على الأرض، ولكن كان التصعيد العسكري سيد الموقف عبر الطيران والمدفعية الثقيلة. وكان قائد الجيش رئيس مجلس السيادة الفريق عبدالفتاح البرهان قد أعلن أن “القوات المسلحة لم تستخدم بعد كامل قوتها المميتة، لكنها ستضطر إلى ذلك إذا لم ينصع العدو أو يستجب لصوت العقل”.

وينقسم السودانيون في تعريفهم المجتمع الدولي إلى قسمين، فبعضهم يرى أنه شيء هلامي ولا معنى محدداً له لتنسب إليه المبادرات، خصوصاً مع فشله في وظيفته الأساسية في تكريس السلام وإدانة الحرب والتعامل معها كانحراف عن الطبيعة وتجنبها بالقوانين المقيدة لاشتعالها، لا التعامل المتراخي معها، بينما يعتقد آخرون فيه كامل الاعتقاد ويؤمنون بأن الحل الناجع للأزمة السودانية لن يكون إلا من قبله.

قوة مميتة

وانتشر تداول تعبير “القوة المميتة” على نطاق واسع في السودان أثناء الاحتجاجات على النظام السابق، وآخرها خلال الانتفاضة السودانية التي اندلعت، في 19 ديسمبر (كانون الأول) 2018، ووقتها حذرت الأمم المتحدة من تصاعد العنف في السودان بأن استخدام القوة المميتة كوسيلة لمواجهة التظاهرات مسألة غير مقبولة، ووردت تقارير تفيد بسقوط قتلى في أوساط المحتجين خلال التظاهرات نتيجة استعمال قوات الأمن الحكومية الذخيرة الحية أثناءها.

ولم تُلتزم الهدن السابقة بين طرفي النزاع، إذ سرعان ما كانت تخترق، وتعرضت لتعقيدات في توصيفها، إذ لم تحمل طابعاً سياسياً، بل كان الطابع الأساسي هو الصفة العسكرية لقائدي القتال، كما أن أياً من الهدن لم يصلح لأن يكون مقدمة لإيجاد أساس لعقد صلح بينهما لإنهاء حالة الحرب القائمة بشكل قانوني، فحالة الحرب لا تنتهي إلا بإبرام الصلح، والحال هكذا، فإن المواطنين هم من يدفعون فاتورة خروقات هذه الهدن. ولم تتوقف الأعمال العدائية، وحدثت الاختراقات من دون الالتزام بأي منها، فكان الإسراع بالرد على خرق الهدنة من قبل أحد الطرفين باعتبارها منتهية واستئناف العمليات العدائية سريعاً، ولعدم وجود آليات مراقبة حقيقية تضمن تنفيذ وقف إطلاق النار، سوى بعض التهديدات الأميركية بأنها تراقب تحركات الطرفين، ويمكنها فرض عقوبات على من يخترق الهدنة.

وكان المجتمع الدولي يخطط بأنه في ظل استمرار الهدنة سيعمل على إجراء تحسينات الفترة وحماية مكتسباتها والبناء عليها لإجراءات تسمح بمرور المساعدات الإنسانية، وصولاً إلى تسوية سياسية مستدامة، وارتفعت الدعوات الدولية لتجديد الهدنة، وفي كل مرة يكون اختراقها دليلاً على عدم الاتفاق بحسن النية، وهذا ما كان يتطلبه السلام والاستقرار حتى لو لم يتم التوصل إلى حل سياسي شامل، إذ إن أي تسوية سياسية لا تتم إلا على أساس الاعتبار للمواقف الموحدة للقوى السياسية، وهي الطريقة الوحيدة لتحقيق السلام الدائم والعادل، وعملت الولايات المتحدة والسعودية على تيسير المبادرات الداعية إلى وقف القتال للسماح للمساعدات الإنسانية بالوصول إلى المتضررين من الصراع، ومثل اتفاق جدة نقطة مضيئة وسط الجهود الدولية، إذ سعى إلى تمهيد الطريق لوقف شامل لإطلاق النار.

ثغرات المعاهدات

وكانت المشكلة الأساسية التي تواجه المدنيين وتحرك المجتمع الدولي هي عدم صمود الهدن، والآن بعد تحول القتال إلى القوة المفرطة ستتحول المبادرات الدولية إلى دعوة طرفي النزاع إلى الكف عن استخدام العنف، وتلقائياً ستمثل المحافظة على وتيرة القتال السابقة فترة تلتقط فيها القوات أنفاسها وتكسب بها وقتاً إضافياً، وهذا التطور فرضه إحساس كل طرف بقرب انتهاء الحرب، وفي هذه الحالة يطمح كل طرف بإنهائها لصالحه. وتبعاً لذلك، يمكن تفسير زيادة قلق المجتمع الدولي على أنه بسبب طبيعة الحروب الأهلية السودانية، فإذا استمرت سيصعب وضع حد لها، مما يعني تمددها، ومع ذلك فإنه لم يقتنع حتى الآن طرفا النزاع بقبول الحل السلمي، مما ينبئ بقصور من طرف ما، إما من مدى استجابة طرفي النزاع، وهو ما أثبتته المحاولات الأخيرة، وإما من المجتمع الدولي نفسه الذي قد يكون في حاجة إلى آلية أكثر عمقاً من شأنها فهم تعقيدات الصراع وجذوره، وإنشاء معاهدات تسد الثغرات التي تفرضها التغييرات في أجزاء من العالم، خصوصاً إذا تعلق الأمر بقضايا نزع السلاح.

تدخل فاعل

ينبع تردد المجتمع الدولي إزاء التدخل الفاعل وتبني الحل السلمي في الأزمة السودانية من عوامل عدة، أولها ربما تكون هناك حاجة إلى تغيير وسيلة المبادرات إزاء ما أورده بعض المصادر عن مشاركة آلاف المنتمين إلى جهاز الأمن والاستخبارات الوطني السوداني في عهد الرئيس السابق عمر البشير، وذلك لأن أي جهود ستكون معرضة للفشل لدخول عامل آخر في الصراع، وهو العامل الأيديولوجي، إضافة إلى تحول وتيرة الإدانة الدولية التي كانت تساوي بين طرفي النزاع مع استنكار ممارسات قوات “الدعم السريع”، وفي حال دخول الإسلاميين من الضباط السابقين على خط الأزمة سيعيد المجتمع الدولي النظر في الأسلوب المتبع منذ بداية الأزمة السودانية وترتيب أدواته للتقييم في التعاطي معها، مما يعقد في المحصلة النهائية إمكانية وصول البلاد، حتى لو انتهت الحرب، إلى حكم مدني، كما ستكون ظلال الإسلام السياسي حاضرة على نظام الحكم المقبل، مما سيعيد تجربة الحكم المصرية بعد أحداث “الربيع العربي”، وما تبعها من أحداث ومواجهات، وفي أفضل السيناريوهات ستعود البلاد إلى حقبة نظام البشير، مما سيعرضها لعزلة دولية أخرى وسط العقوبات.

والعامل الثاني هو استمرار طرفي النزاع في إدارة الحرب من دون الالتزام بأخلاقيات المواجهة مثل اتخاذ المواطنين دروعاً بشرية واقتحام المستشفيات واحتلال منازل المواطنين وتشريدهم من جانب “الدعم السريع”، وضرب الجيش هذه المنازل وعدم توفير الحماية اللازمة للمواطنين داخل الأحياء، كل ذلك يجعل من الصعب نجاح الحل السلمي الدولي بغرض فض النزاع، بل سيضاعف من حجم الخسائر البشرية والدمار.

أما العامل الثالث فلا يبدو أن المجتمع الدولي على دراية كاملة بتفاصيل أسباب اندلاع الأزمة السودانية، إذ إن ما يظهر هو رأس جبل الجليد المتمثل في الاتفاق الإطاري والبند الذي يشار إليه بدمج قوات “الدعم السريع” في الجيش السوداني، وهذا أمر من عناصر عدة باتت تعتمل في الحياة السياسية السودانية، حملتها أولاً انشقاقات حكومة الفترة الانتقالية بين المدنيين والعسكريين، ثم انشقاقات المدنيين من جهة، والعسكريين من جهة أخرى، وهو ما تفاقم إلى أن وصل إلى حال الحرب، وقبل الثورة تعد البيئة السودانية من أكثر البيئات تشبعاً بأجواء الخلاف والقابلية للانفجار، وتلعب في ذلك ترسبات سياسية واجتماعية وتعقيدات اقتصادية.

ازدواجية المعايير

وعلى رغم كل الدعوات الإقليمية والدولية لا يبدو أن هناك حلاً يلوح في الأفق يمكنه إيقاف الصراع، مما يستوجب إعادة النظر في مدى التأثير الدولي في السودان، ونظراً إلى موقع السودان والتشابكات الإقليمية، فإن الحاجة إلى ذلك تبدو أكثر إلحاحاً، إذ إن الأزمة لم تعد شأناً يتعلق بصراع بين أطراف سودانية فقط، بل يمكن أن يمتد ليتحول إلى صراع يشمل الإقليم كله، مما يعني أن مصالح دولية ستكون معرضة للخطر، ومع غياب الأفق لحل سياسي فإن الخيار البديل كان بذل مزيد من الجهد لوقف شامل لإطلاق النار، ولكن أيضاً ليست هناك رؤية واضحة حول كيفية القضاء على مصادر تسليح الطرفين، أو معرفة إلى أي مدى زمني يمكنهما مواصلة العنف.

وحول السودان في مداره القريب والبعيد تلوح متغيرات سياسية واقتصادية قد تعصف بالحلول السلمية المطروحة الخاصة به والمتاحة حالياً، ليصبح تنفيذها مستحيلاً بعد ذلك، خصوصاً إذا خرج السودان من المعادلة الإقليمية، واستعاضت الدول التي كانت تعول عليه بأخرى أكثر استقراراً. وهناك مصالح إقليمية ودولية لا تعرف الانتظار، قد تؤدي إلى بروز محاور جديدة تستفيد من الحراك في المنطقة، خصوصاً إذا فقدت الثقة في عودة السودان إلى توازنه، وعندها سيتحول إلى دولة فاشلة لا يُؤبه لها، وستسوي القوى الدولية ملفات مصالحها بعيداً منها.

وما بين تيارات ترى أن المجتمع الدولي لا يشير إلا إلى الولايات المتحدة التي قد لا يعجزها شيء عن فرض حل سلمي للأزمة السودانية وأخرى ترى أن المجتمع الدولي مرتكز يعتمد بالأساس على تشتيت المسؤولية وإعفاء البلدان التي لا تنوي مد يد العون وترى وضع حلول لأزمة كهذه شيئاً مكلفاً، يبدو أن هناك تلكؤاً ما يحيط بالأزمة السودانية، وهذا قد يدعم اعتقاد البعض أن القوانين التي أوجدتها الحروب السابقة تؤثر في دول محددة، دون غيرها، أو تستنفر المجتمع الدولي لإيقاف الحروب بين الدول بشكل أكبر من تأثيرها في الحروب داخل الدولة الواحدة، وربما يكون مبرر ذلك أن تأثير الحرب بين دولتين يكون على توازن القوى، فيهرع المجتمع الدولي إلى الحفاظ عليه، مما يعده البعض ازدواجية في المعايير، لأنه لا يتحرك وفقاً لتصنيف الحرب بأنها إحدى أدوات العنف، ولكن لحاجته هو إلى إيقافها.

اندبندنت

تعليقات الفيسبوك

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى