منوعات

علامة استفهام (39) | ما سر الليل؟

(1)

تنتظر حتى يهبط الليل، ويأوي أهل الدار إلى فُرُشهم، كل ما حولك عتمة، وأنت تقصد النور، وحدك من بينهم تقوم، تتسلل في هدوء، تتطهر.. ثم تقف وتتلو، فإذا بالمكان يكبر ويكبر، والغرفة الضيقة تتسع وتتسع، وإذا بك تطير وتطير، وعالمك الذي كنت تحسبه من الحزن سجنًا يصبح جنة، تبلغ السماء، تزاحم الملائكة، تشاركهم تمجيد الرب، والشمس التي ظننتها غابت، تعود لتشرق من جديد، هذه المرة من صدرك الذي تخرج منه الآيات المحكمات.

اخرج من عالم الحسابات، لا تحدد كم ركعة ستكون صلاتك، ولا كم آية ستتلو من القرآن، ثم قف، أدر ظهرك للدنيا، وتوجَّه نحو القبلة، ارفع يديك وأعلن: “الله أكبر”

(2)

أتعرف؟!

هناك شيء خفي في النهوض ليلًا بينما الجميع نيام، اجتهدت لأعرف السبب.

سألت وسألت وسألت..

قيل لي: إن الليل لأهل الليل مثل الغيب لله تعالى، نحن لم نعتد الغيب لذلك لا نعرفه، فهو شأن الله عز وجل وسره، وكذلك لا يعرف سر الليل وحالة أهله إلا من يعتاده، إلا من يتحرر من الغفلة ومن يخر فيمرغ جبينه في الأرض سجودًا لموجد الوجود.

قيل لي: إن النهار هو عالم العيون والأسماع والأبدان، أما الليل فهو عالم الأرواح، وإن الإنسان -كما هو معلوم- جسد وروح، أما الجسد فمكانه الدنيا، وإن الخلوة في الليل إنما هي فرصة للروح -تلك النفخة الإلهية- حتى تحلق وتعود -ولو قليلًا من الزمن- إلى مكانها الطبيعي، إلى ديار موطنها الأصلي.

قيل لي: في الليل مدينتك الصاخبة التي تضيع فيها إذا أضاءتها الشمس تمسي شبحًا مسحورًا، لا تكاد تراه، وبعد أن كانت الدنيا تشملك في النهار، بتَّ تشملها أنت في الليل، ويصبح ذلك الصمت السابغ على الكون لك وحدك، تملؤه من خيالك وفكرك، ومن ضميرك وشعورك.

(3)

هل تريد نصيحتي؟

عندما يدق جرس المنبه في الثلث الأخير من الليل، لا تتردد لحظة، ولا تتباطأ، قم على الفور وتوضأ بماء بارد.

ثم افعل كما فعل أبو عبد الله علي بن عمر الشاذلي ورفاقه: أحضر حبوب البن، حمِّصها حتى تصل إلى اللون البني، امزجها جيدًا مع الزنجبيل، واصنع قهوتك، وارشفها رشفة رشفة، واستعن بها على اليقظة.

اخرج من عالم الحسابات، لا تحدد كم ركعة ستكون صلاتك، ولا كم آية ستتلو من القرآن، ثم قف، أدر ظهرك للدنيا، وتوجَّه نحو القبلة، ارفع يديك وأعلن: “الله أكبر”.

ثم اتلُ ما تيسر لك من آيات الله، أو أمسك بهاتفك واتلُ منه.

أنت الآن خارج المكان، وخارج الزمان، وخارج العالم كله، أنت الآن بين يدي من هو أكبر من الوجود، ينتشي قلبك بالذكر، تبكي مرة، وتبتسم مرة.

فإذا ما تنزَّل ربنا إلى السماء الدنيا، وتجلى يلتقي من يحبهم، وجدك قائمًا، تحذر الآخرة وترجو رحمة ربك، وقد تخلى قلبك عن الدنيا وما فيها، وتعلق به، تعلق به وحده عز وجل.

ساعتها ستتذوق لذة تجعلك تندم على كل ليلة غبت فيها عن هذا اللقاء، وكنت رهين غطائك، أسير سريرك، وقد ضيعت على نفسك صلوات التهجد، قناديل النور التي تضيء عتمة البرزخ.

نعم لليل أهله كما للنهار أهله

(4)

في المرات الأُوَل: يغالبك النوم، لا تعي ما تقرأ وما تتلو، تكاد لا تفهم شيئًا، تقول: أتوقف وأعود في الغد أكثر استعدادًا، صدقني لن تعود، وإن عدت سيراودك الشعور نفسه، وغلبة النوم والرغبة في التسويف.

قاوم، فالمرء يعتاد الأمر بالتعود والتكرار، كن مصرًّا على اليقظة، لا تفرط في اللقاء.

تمر شهور وشهور وأنت على هذا المنوال، ثم رويدًا رويدًا ينقلب حالك رأسًا على عقب، أو قل ينصلح حالك، وإذا بإحساس رائع يتملّكك، وإذا بك تستمتع بالأمر بشكل لا يوصف، حتى إنك تتساءلُ: كيف حرمتَ نفسك كل هذه السنوات من تلك اللذة؟ كيف ذلك وأنت الذي كنت تظن أنك ضحيت بالرقاد في حين أن الآخرين يستمتعون؟!

الآن.. تشعر أنك تُمنح لا تهب، تأخذ لا تعطي، وإذا بالنور يسري داخلك.

يا إلهي..

إنها حالة لا توصف، حتى إنك تصبح ناقمًا على الصيف بلياليه القصيرة، تكتشف أن الأمر يعدو صلاة ركعتين في جوف الليل، إنه رحلة إيمانية كاملة، موعدها الليل والناس نيام.

رحلة تترك فيها الخلق، تغادر نفسك، وتصبح في حضرة الخالق، تشكو نفسك إليه، تُسِرُّ إليه بما يؤذيك، وبكل ما تتمناه، تحدثه عز وجل عن الخوف الذي يسكن قلبك.

ومع “السلام عليكم”.. تلفك الطمأنينة، تتنزل عليك السكينة، تلك التي أعياك البحث عنها كثيرًا كثيرًا!

(5)

تخيل..

أنت الآن من أهل الليل، ولي من أولياء الله، أنت الآن من أحسن الناس وجوها، فقد خلوت بالرحمن، فألبسك من نوره. الحسن البصري قال ذلك.

سعيد بن المسيب قال أيضًا: “إن الرجل ليصلي بالليل، فيجعل الله في وجه نورًا يحبه عليه كل مسلم، فيراه من لم يره قط فيقول: إني لأحبُّ هذا الرجل”.

تخيل..

أنت الآن مع الحق، لأنك بت لا تأنس بالخلق، وإنما بخالق الخلق، قلبك معلق بالعرش، وليس بالذين على الأرض، الآن تجد سببًا لحب الدنيا، ففيها تقيم الليل، وفي هذا القيام أعلى درجات التجلِّي في اللقاء بين العبد وربِّه، لذلك فهو نعمة يختص بها الله بعضًا من عباده وأهله، آهِ لو أنت منهم.

أنك نائم في وقت ينزل فيه الرب إلى السماء الدنيا، يبادل عباده الذين جفوا النوم المحبة، الله عز وجل، الخالق، الجبار، الرحمن يبادل هؤلاء العباد المحبة ويقول:

“كذب من ادعى محبتي، فإذا جنَّه الليلُ نام عني”.

أليس كل حبيب يخلو بحبيبه؟!

هأنذا مُطَّلع على أحبائي إذا جنَّهم الليل، غدًا أقر عيون أحبائي في جناتي”.  

المصدر: الجزيرة نت

تعليقات الفيسبوك

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى