الاقتصاد

الجوع يجبر سكان الخرطوم على الزراعة داخل الأحياء والبيوت

تسبب الوضع الإنساني المتأزم بسبب الحرب المستمرة بين الجيش السوداني وقوات “الدعم السريع” داخل العاصمة الخرطوم، من دون توقف طوال أكثر من 10 أشهر ماضية، بوضع العالقين الذين لم يتمكنوا من النزوح، في مدنها الثلاث (الخرطوم، وأم درمان، والخرطوم بحري) على حافة الجوع، إذ لم يعد أمامهم سوى الاستسلام للموت جوعاً أو مواجهته ببدائل وخيارات فعالة للبقاء على قيد الحياة، وقد دفع شح المتاح من السلع الغذائية والغلاء الفاحش للمتوفر منها وعدم القدرة على التنقل وانعدام السيولة، العديد من الأسر إلى اللجوء إلى الزراعة داخل المنازل والمساحات الفارغة في الأحياء لتأمين ما يسد الرمق.

أزمة غذاء

ظل المدنيون العالقون في العاصمة السودانية مهددين، بحسب لجان الطوارئ، في مواجهة مستمرة مع خطر الجوع الماثل، وبدأت بعض حالات الموت جوعاً تتكشف بشكل مؤلم في الآونة الأخيرة. وزاد انقطاع شبكات الاتصال والإنترنت الأمر سوءاً، نتيجة انعدام التواصل مع تلك الغرف، وهو ما عرقل جهود جمع التبرعات المخصصة لشراء المواد الغذائية التي يتم توزيعها على المواطنين.

وبعد اتساع رقعة الحرب وتمددها نحو ولايات آمنة، بخاصة الجزيرة التي كانت ملاذاً للفارين من القتال بالعاصمة، اضطرت أسر نازحة للعودة إلى منازلها والصبر على قسوة الحياة لتتفاقم معاناتهم المعيشية.

ودفع الشح وندرة السلع الاستهلاكية الغذائية والارتفاع الجنوني في أسعار المتوفر منها، الناس إلى اللجوء للبحث عن بدائل في استغلال المساحات الخالية داخل المنازل وقطع الأراضي الخالية المجاورة في زراعتها ببعض الخضراوات مثل الجرجير، والبامبي (البطاطا الحلوة)، والبصل، والبامية، والملوخية والرجلة، مستفيدين من جزء منها في علف ما تبقى من حيوانهم الأليفة.

اتساع الفجوة

بحسب لجان طوارئ الخرطوم، فإن الأزمة الغذائية التي تتسع فجوتها وتنحدر معها الأوضاع الإنسانية في ولاية الخرطوم نحو الأسوأ يوماً بعد يوم، بات من الصعب على عديد من الأسر والعائلات التي قررت العودة إلى منازلها في الخرطوم، بظل توقف انسياب المساعدات الإنسانية.

وفاقم استمرار القتال زيادة حجم التدهور الاقتصادي، بعد الدمار المهول الذي لحق بالبنية التحتية والصناعية والتجارية وبالقطاع المصرفي. وخرجت أكثر من 400 مؤسسة، من منشآت التصنيع الغذائي والدوائي عن العمل. وطال التخريب قطاع الخدمات الأساسية، فضلاً عن تأثر معظم المشروعات الإنتاجية والزراعية في كافة أنحاء البلاد نتيجة تمدد الحرب وشح التمويل.

ويقول المهندس الزراعي علي عبدالمجيد، “كانت الزراعة داخل المنازل تمارس بشكل معروف كجزء من ثقافة ونمط الحياة في الأرياف السودانية حيث مساحات البيوت الواسعة التي تشكل امتداداً للأرض الزراعية الخصبة في تلك المناطق بغرض سد حاجاتهم اليومية من الخضراوات سريعة النمو”.

استدعاء الريف
لكن وفق عبدالمجيد، “يبدو أنه ومع تفاقم معاناة سكان عديد من الأحياء والمناطق بالعاصمة جراء الحرب، وجد الناس ضالتهم في استدعاء هذه التجربة كمخرج من أزمة ندرة الغذاء وارتفاع أسعاره، بخاصة في المناطق التي ظلت شبه معزولة ولم تتمكن حكومة الولاية المتمركزة في محلية كرري، شمال أم درمان، من إيجاد أي سبل أو وسائل للتواصل معهم لتوفير بعض حاجاتهم، ولم يعد أمامهم سوى الاعتماد على الذات واستدعاء أفكار ومخارج خاصة بهم”.

ويشير المهندس الزراعي، إلى أن “كثيرين ممن يقطنون العاصمة السودانية يتحدرون من أصول ريفية ومجتمع زراعي بخاصة سكان الأحياء التي تتميز بوجود حوش (الفناء) واسع، وهم الآن يستفيدون من تلك المساحة داخل بيوتهم لزراعة أنواع عديدة من الخضراوات التي لا تحتاج إلى كثير من الخبرة والوقت.

وشكل مواطنو ولاية الخرطوم الذين فضلوا البقاء نازحين داخل محلية كرري بالعاصمة نفسها، ضغطاً على القليل المتاح من الخدمات، في ظل معاناة كبيرة ونقص حاد في المواد الغذائية خاصة الخضراوات والبقوليات بأنواعها المختلفة، حتى الحيوانات عانت انعدام الأعلاف جراء الحرب المستمرة.

ويعتقد عبدالمجيد أن “الزراعة المنزلية تسهم في الأمن الغذائي لعديد من الأسر كجزء من عملية التنمية الريفية، وتشمل كذلك تربية الحيوان في الظروف العادية، أما في أوقات الشدة كالحروب وأزمنة الجفاف فهي بلا شك من ضمن الحلول المريحة، وقد لجأ إليها الناس خصوصاً في الأحياء الطرفية، وشكلت خياراً جيداً نجح في تأمين حاجات ضرورية لمن تبقى من السكان واستفاد البعض من عوائدها من خلال توفيرها بالأسواق المحلية ولو على نطاق محدود، لكنه قابل للتوسع وقد يمتد ويتحول إلى سلوك دائم حتى بعد انتهاء الحرب لما فيه من فائدة”.

توقف وصعوبات

في ذلك المنحى، يقول المعلم محمد نور الدين، من مواطني منطقة الشقلة بالفتيحاب، إنه “حتى الشهر الثالث من الحرب كانت المنتجات الزراعية تنساب من مناطق الجموعية الزراعية والمزارع في الجروف على النيل الأبيض لتغذي أسواق المحطة القديمة وسوق (15) بالمربعات أبوسعد، لكنها في الآونة الأخيرة خصوصاً بعدما تأثرت تلك المناطق بانتقال المعارك إلى جبل أولياء، ضعفت التدفقات بشكل ملحوظ، وأصبح هناك شح في المنتجات الزراعية والخضراوات، إضافة إلى صعوبات الوصول إلى بعض المناطق نتيجة الحصار الذي كان مضروباً على عدد من أحياء منطقة الفتيحاب عموماً”.

كل تلك الأسباب بحسب نورالدين، كانت وراء لجوء الناس للبحث عن بدائل لسد النقص في الخضراوات باستغلال المساحات الداخلية للمنازل وبعض القطع السكنية الفارغة بين البنايات والمساكن المجاورة، مبيناً، “بدأت واثنان من جيراني في الحي بالزراعة داخل منازلنا ببعض خضراوات سريعة الإنبات والإنتاج مثل الجرجير والعجور والبامية والفجل والشمار والبطيخ أحياناً، ونجحت التجربة بصورة كبيرة نظراً إلى طبيعة أرض السودان وبعض الأسمدة العضوية البسيطة”.

اقتصاد أسري
ويتابع نور الدين، “بعد النجاح الذي لاقته التجربة وتحقيق الاكتفاء الذاتي لسكان الحي الموجودين على قلتهم، بدأنا نمد الجيران في الأحياء القريبة ببعض حاجاتهم من الخضراوات، بعدها ازدادت التجربة رواجاً وسط كثير من الأسر في مواجهة ظروف الندرة والغلاء الطاحن”.

في السياق نفسه، أوضحت كوثر محمد المتخصصة في إدارة البساتين، أن “فكرة الزراعة المنزلية في شكلها العام وفي ظل الظروف العادية تدعم الاقتصاد الأسري لذوي الدخل المحدود وبخاصة في المناطق الريفية والطرفية لصعوبة وصلوهم إلى الأسواق، فضلاً عن أنهم غالباً ما يجدون الحل في الزراعة داخل منازلهم بما يضمن لهم توفر تنوع الغذاء وتقليل الكلف في الوقت نفسه”.

وأوضحت كوثر أن “فترة الحرب ومشكلات توفر الغذاء دفعت الناس فعلاً لزراعة أنواع عدة من الخضراوات الورقية في فناء منازلهم أو حتى في المساحات الفارغة بالجوار”، مشيرة إلى أن “أنسب الأنواع التي يمكن للناس أن يزرعوها من حيث سرعة النمو والنضج إلى جانب فائدتها في مثل هذه الظروف هي: البامية والملوخية والكوسا والبطيخ والخيار، ومعظمها لا تزيد الفترة بين زراعتها وحصادها على الشهرين”.

استفادة متبادلة

ولاحظ بعض تجار الخضراوات بجنوب العاصمة السودانية أن “كثيراً من الخضراوات في السوق هي من المنتجات المزروعة في منازل المواطنين”. وأوضح بائع الخضراوات بدرالدين صالح، أن “شح الوارد من المنتجات الزراعية وتعذر تدفقها من ولايتي الجزيرة والنيل الأبيض وولاية نهر النيل المجاورة لولاية الخرطوم بسبب تمدد العلميات العسكرية، صعب حصول المواطنين على حاجاتهم من الخضراوات”. وأضاف “كنا نساعد الناس في الحصول على البذور، ونفيد ونستفيد من شراء بعض الفائض منهم لتسويقه في مناطق أخرى أكثر حاجة، أو واجهت بعض الصعوبات في ما يخص شح مياه الري لمزروعاتها، بخلاف المناطق القريبة من النيل خصوصاً في الفتيحاب القديمة التي لا تواجه مثل هذه المشكلة نظراً إلى طبيعة الأراضي الرطبة فيها”.

ويشير صالح إلى أن “انتشار الزراعة المنزلية في الآونة الأخيرة سببه الظروف التي أجبرت المواطنين على البحث عن حلول لأزمة الغذاء المتفاقمة، فيزرع الناس حالياً عديداً من الخضراوات مثل البامية والبامبي والملوخية والجرجير والذرة الشامية، وغيرها. ولم يعد هناك من يجهد نفسه في البحث عنها”.

زراعة في الإيواء

تجربة مشابهة عاشها أسعد النعيم زكريا، الفار مع أسرته من معارك جنوب الخرطوم إلى شمال أم درمان، فزرع الخضراوات داخل أحد مراكز الإيواء (ناد رياضي). ويقول “مع استمرار الشح وغلاء الأسعار قررت أن أستفيد من المساحات الجيدة المتوفرة داخل فناء المركز، وكانت ملائمة وتوفر مجالاً طيباً لزراعة بعض الخضراوات. وبعد الاستئذان من الجهات المشرفة لزراعة مساحات بعينها تشاركت مع اثنين من نزلاء المركز في زراعة البامية والرجلة والجرجير والبطيخ والطماطم، وهي الآن على وشك الحصاد بنمو ممتاز سيستفيد منها كل المقيمين بالمركز”، مشيراً إلى أنها لم تكلفهم سوى الحصول على البذور والمجهود البدني في عمليات تمهيد الأرض والمتابعة.

جوع متنامٍ
وكان برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة أشار إلى أن “أكثر من 25 مليون شخص من إجمالي عدد سكان السودان المقدر بنحو أكثر من 42 مليون نسمة، يحتاجون إلى مساعدات إنسانية عاجلة، بينهم 18 مليون شخص يواجهون انعدام الأمن الغذائي، ومن بين هؤلاء نحو خمسة ملايين على شفا كارثة الجوع يتركز معظمهم في الخرطوم وولايات دارفور”.

وأسفرت حرب السودان وفق تقارير أممية ومحلية، عن سقوط أكثر من 14 ألف قتيل في عموم البلاد، ونزوح نحو ثمانية ملايين شخص داخل البلاد، لجأ أكثر من 1.7 مليون منهم إلى دول الجوار، وصنفت كأكبر أزمة نزوح في العالم بحسب تقديرات الأمم المتحدة.

ومنذ أكثر من 10 أشهر من اندلاع الحرب بين الجيش وقوات “الدعم السريع” منتصف أبريل (نيسان) الماضي، لم تهدأ المعارك بالعاصمة السودانية التي تقلص عدد سكانها من نحو 11 مليون نسمة، إلى أقل من ثلاثة ملايين بسبب عمليات النزوح الداخلي والخارجي من محليات ولاية الخرطوم المختلفة، بينما قدر عدد القتلى في العاصمة السودانية وحدها بما لا يقل عن 4500 شخص، مع عشرات الآلاف من الجرحى والمعاقين، بحسب المرصد السوداني الحقوقي.

جريدة اندبندنت البريطانية

تعليقات الفيسبوك

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى