الرياضة

تاريخ مارادونا الموازي.. مشاهد فاتتك من نهائي مونديال قطر

كيف نتذكر ما نتذكره؟ وكيف ننسى ما ننساه؟ في أغلب الأوقات، تعمل ذاكرتنا من تلقاء ذاتها، دون أن تخبرنا لماذا احتفظت بتلك اللقطة أو هذا المشهد، ولماذا تخلصت من غيرهم. كيف سنتذكر نهائي كأس العالم إذن؟ كيف سنتذكر قصة ميسي مع الأرجنتين؟ هل ما ستحتفظ به عقولنا هو الحقيقة فعلا؟ ما الحقيقة أصلا؟

 

هذا السؤال أعجز علماء الأعصاب وعلم النفس عبر التاريخ؛ حتى اللحظة، يعتقد أغلبهم أن الذاكرة البشرية لا تزال لغزا غير قابل للحل. في الواقع، الذكاء الاصطناعي أصبح أفضل من البشر في توقع طريقة عمل الذاكرة البشرية، ويمكنه أن يخبرك أي صور أو مشاهد سيحتفظ بها وعيك، حتى لو لم يكن يعرفك على الإطلاق. (1)

 

هذا يُثير جنونهم بطبيعة الحال. نتحدث عن العلماء بالطبع؛ لأنه يعني أن هناك نمطا ما يمكن ملاحظته، ونقطة مرجعية يمكن العودة لها وقياس كل شيء. يعني أن هناك حقائق مطلقة فيما يخص الذاكرة البشرية يمكن للذكاء الاصطناعي إدراكها وقياسها وتجربتها، فقط هم ليسوا بالذكاء ذاته.

المفارقة الأكبر في الأمر كله أنه بينما نعامل ما نتذكره على كونه حقائق، فإن أقرب إجابة توصَّل إليها العلماء هي أن الأمر يتعلق بالخيال، على سبيل المثال، ما يجعل بعض الألفاظ أكثر قابلية للتذكُّر من غيرها هي قدرتنا على تخيلها في صور أو حكايات. (2)

 

هذه إجابة أفضل طبعا، ولكنها لا تزال غامضة بدورها، لأنها تقودنا إلى سؤال آخر؛ ما الخيال؟ هل نستطيع التفكير فيما لم يفكر فيه أحد من قبل؟ هل يمكننا تخيل صورة ذهنية من العدم؟ أم أن الأمر كله لا يتجاوز إعادة إنتاج القصص والحكايات التي راكمناها عبر حياتنا؟

 

سؤال آخر محير، ولكنه يقودنا إلى جزء من الإجابة؛ ما نتذكره متوقف كليا أو جزئيا على السرديات التي أثّرت في تجاربنا وخبراتنا أكثر من غيرها. السرديات التي قدمتها لنا الأفلام والروايات والأغاني والعادات والتقاليد ومواقف الحياة.

 

نعم، ندرك أننا طرحنا الكثير من الأسئلة للوصول إلى إجابة بديهية؛ الإنسان مجبول على تكرار التاريخ بطريقة ما. هذا ليس جديدا ولا يحتاج إلى علماء نفس أو أعصاب أو ذكاء اصطناعي. المشكلة هنا أن تلك البديهيات لم تتحقق بعد نهائي كأس العالم، وهذا هو ما جعلنا نطرحها ابتداء.

 

أي طفل يُدرك جيدا أن الذكريات الأكثر تأثيرا في مسيرة ميسي مع منتخب بلده كانت مقترنة بالفشل أكثر من أي شعور آخر؛ لحظات البكاء، والرؤوس المنحنية، والأكتاف الساقطة، والأذرع المستندة إلى الخصور، والمقارنات مع مارادونا، والشعور بالعجز والفراغ.

لحظة رفع ميسي للكأس سبقها الكثير من المعاناة، ولكن لأسباب مفهومة محتها تلك اللحظة؛ تلك الصورة لميسي مزهوا بنفسه، ناظرا للجمهور بوجه صلب جامد، على غير المعتاد، بينما يقلده أمير قطر البشت العربي الشهير.

 

لأسباب مفهومة أيضا كان الجمهور بحاجة إلى لحظة كتلك، غارقة في الرمزية، تجعل مشهد التتويج مختلفا عن أي نسخة سابقة، يشعر فيها الجمهور العربي تحديدا أن الرجل صار أقرب إليهم من أي وقت مضى.

 

في تلك اللحظات، تعمل عقولنا بأقصى طاقتها لتوفير سعة تخزين جديدة، وتنطبع المشاهد في ذاكرتنا مستبدلة مشاهد أخرى فُرضت عليها. الفارق هنا أن الكثيرين أرادوا تذكُّر هذه اللحظة. في الواقع، هذا ما أرادوه منذ كأس عالم 2010 ولم يحصلوا عليه أبدا، وعندما تحقق لهم ما أرادوه أخيرا، لم تكن عقولهم بحاجة إلى إرشاد في هذه اللحظة، وبدت مهمتها من أسهل ما يكون.

استبدال ذكريات الألم والمعاناة لصالح ذكريات النصر والتتويج لا يحتاج إلى قرار واعٍ، وهذا هو مكمن خطورته بالضبط. ربما لهذا السبب تحديدا جُبل الإنسان على تكرار تاريخ أسلافه؛ لأنه لم يتذكر إلا مشهدا واحدا من كل رحلة قطعوها، أو لأن ذاكرته متحيزة بدورها، أو لأن تلك الانتصارات خالطتها الأكاذيب، وبعض هذه الأكاذيب كان متعمدا، لأن أسلافه أرادوا تحويل عشوائية الحياة إلى قصة محكمة مصمتة بلا ثغرات.

 

هذا هو بالضبط ما سنحاول محاججته؛ الأكاذيب التي ساقها الكثيرون، وعلى رأسهم مارادونا نفسه، في الطريق إلى تلك اللحظة.

 

عناق عمره 12 عاما

المشهد الأول الذي فاتك من نهائي كأس العالم لم يحدث في نهائي كأس العالم للمفارقة، بل سبقه باثني عشر عاما، وتحديدا في ربع نهائي نسخة 2010 بجنوب أفريقيا بين الأرجنتين وألمانيا، عندما كان دييغو أرماندو مارادونا مدربا لميسي ورفاقه. تلك اللحظة الأيقونية التي يدرب فيها مارادونا مَن يُفترض به أن يكون خليفته هي ما حدد علاقة الأرجنتين بميسي في العقد التالي كاملا.

 

عقب المباراة التي انتهت بسحق وإذلال الأرجنتين برباعية نظيفة، ذهب مارادونا ليُحيي لاعبيه، ومن ضمنهم ميسي بالطبع، ولكن كل الصور التي التقطت لهذا العناق لم تُظهِر أي عاطفة من جانب الأخير، بل بالعكس، تجنب التواصل البصري مع مدربه، وأشاح بوجهه، ولم يحرك عضلة واحدة في جسده ليستقبل ذراعَيْ مارادونا، وكأنه كان يعانقه رغما عنه.

 

كل المنتخبات تخسر في كأس العالم، وكل اللاعبين الكبار حظوا بلحظات رغبوا في نسيانها، ولكن ربما كان السبب الرئيس للغة جسد ميسي في تلك اللحظة هي حقيقة أنه كان يعلم ما سيحدث بعد المباراة بالضبط.

 

قبل البطولة بأيام، كان الصحفي بول هيوورد من الغارديان الإنجليزية يعلن عن مفاجأة صادمة؛ مارادونا لم يكن يرغب في ضم دييغو ميليتو، بطل دوري الأبطال في ثلاثية إنتر مورينيو، وأفضل مهاجمي أوروبا في تلك اللحظة، لأنه لم يكن معجبا بأسلوب لعب المدرب البرتغالي. (3) في الواقع، إنتر كان يملك بين صفوفه أربعة نجوم أرجنتينيين ضمن التشكيل الأساسي الذي حقق الثلاثية، من ضمنهم وولتر صامويل مساعد سكالوني الحالي، وخافيير زانيتّي القائد التاريخي، واستبان كامبياسو أفضل لاعب ارتكاز بالبطولة، ومارادونا لم يكن يرغب في ضم أيٍّ منهم.

بالطبع لم يُلقِ أحد بالا لمفاجأة هيوورد الصادمة، لا في الأرجنتين ولا خارجها، ببساطة لأن تولي مارادونا قيادة المنتخب ذاته لم يكن مفاجأة صادمة؛ هذا رجل بلا خبرة ولا تجربة تُذكر، ولم يقف على الخط في آخر 13 سنة، ومعلوماته عن التدريب أقل من معلوماتك عن الدوري السلوفيني، ورغم ذلك، تولَّى مسؤولية واحد من أكثر أجيال الأرجنتين موهبة، ليقوده في كأس العالم. إذا رأى الأرجنتينيون ذلك مبررا، فكيف يمكن أن يصدمهم استبعاد ميليتو؟ (4)

 

يوم المباراة ضد ألمانيا، أثارت التشكيلة الأرجنتينية الكثير من الهمهمات الغاضبة، ولكن كان هذا أقصى ما حدث؛ مجرد همهمات غاضبة. الرجل يُعامل كأنه إله في الأرجنتين وخارجها، لذا يمكنه إشراك خمسة مهاجمين ولاعب وسط وحيد ضد ألمانيا في ربع نهائي كأس العالم دون أن يشغل باله بردة فعل الصحافة والإعلام والجماهير.

 

مولر افتتح التسجيل بطبيعة الحال، لأن مارادونا لم يفته أن يُهينه قبل اللقاء في المؤتمر الصحفي، بعدما رفض مشاركته القاعة، زاعما أنه ظنه عامل جمع الكرات في الملعب، ومقسما أمام العالم أجمع أنه لم يسمع به من قبل.

دعك من محاولة الإهانة تلك لأنها -على دناءتها- ليست أسوأ ما في المشهد، بل حقيقة أن هناك رجلا كان سيواجه ألمانيا في 2010 بربع نهائي كأس العالم، وقبل المباراة بساعات لم يكن قد سمع عن مولر من قبل. (5)

 

قف للحظة وتخيل درجة التعامي التي كان ينبغي للعالم كله التعامل بها مع الموقف، لتحويله إلى مزحة أخرى لطيفة من مزحات مارادونا المعروفة، مثل تلك المرة التي أشار فيها للنيجيريين بأصابع بذيئة من المدرجات، فتحول المشهد تلقائيا إلى تعبير صادق عن الجنون والشغف والروح وكل هذه المصطلحات التي أهلكها ابتذال الرجل وجمهوره، وشارك الكثيرون اللقطة تحت عناوين بلهاء تحاول ادعاء العمق على غرار: “هذه هي كرة القدم الحقيقية!”.

 

الآن عُد للقطة العناق وحاول تخيل ما كان يدور بذهن ميسي في تلك اللحظة؛ مارادونا ليس أسطورة أرجنتينية وحسب، بل هو أقرب لتجسيد للهوية للأرجنتينيين، وبعضهم يعبده بالمعنى الحرفي، لدرجة إنشاء كنيسة تحمل اسمه تعتبر تاريخ ميلاده عيد الميلاد المجيد، ويتبعها عشرات الآلاف، بينما ميسي لا يُمثِّل الكثير للأرجنتينيين في تلك اللحظة. تلك كانت أول تجربة حقيقية كاملة له مع المنتخب، بينما مارادونا كان هو المنتخب، وكان هو الدولة، وكان هو الشعب. (6) (7)

 

لذا عندما نُصبت المقصلة المعتادة عقب الهزيمة، كانت النتيجة المتوقعة هي أن يصيبها الحَوَل، فتقع على رقبة ميسي بدلا من مدربه، ببساطة لأنه كان هدفا سهلا في تلك اللحظة، ومهربا من الحقيقة التي لم يرد الأرجنتينيون الاعتراف بها؛ مارادونا أهان منتخب بلادهم علنا، وبمنتهى الاستهتار والوقاحة، ومع سبق الإصرار والترصد.

غالبا كان هذا ما فكّر فيه ميسي لحظة العناق؛ حقيقة أنه على وشك التحول إلى ذبيحة تُساق للجماهير المتعطشة للدماء بعد الهزيمة، وحقيقة أن مدربه سيختبئ خلفه، لا لشيء إلا حقيقة أنه كان أضعف حلقات المنتخب على مستوى الشعبية والجماهيرية في الأرجنتين، والأدهى أن أي محاولة للدفاع عن نفسه لن تعني سوى الانتحار، ومن هنا بدأ كل شيء.

 

عناق عمره أسبوعان

المقطع المتداول الذي شاهده أكثر من مليونَيْ شخص من حساب واحد فقط يبدأ بغونزالو مونتيال وهو يسدد ركلة الترجيح الأخيرة، ثم تنتقل العدسة إلى سكالوني مباشرة، والثواني التالية هنا جديرة بالدراسة.

بمجرد ظهور سكالوني في المقطع، ندرك أن مونتيال قد سددها بالفعل، وأن الأرجنتين أصبحت بطلة العالم، لأننا نرى تحركات الإداريين وأعضاء الجهاز الفني في الخلفية، ولكن الرجل يظل مُضيِّقا عينيه في تركيز لبضع ثوانٍ، عاقدا ذراعيه على صدره، وكأنه يحلل وضعية تكتيكية معقدة أثناء المباراة، ثم تظهر ابتسامة خجولة على محياه بينما يقترب منه رودريغو باريوس، المعد البدني، الذي يعانقه بحرارة محتضنا رأسه، ثم يديره بعيدا عن الكاميرات، ويصرخ في أذنيه بعبارات لم يتبينها أحد، بينما يربّت سكالوني على ردفيه بعصبية.

 

بعدها يأتي بابلو أيمار، نجم فالنسيا السابق وأحد المساعدين، ليقفز على الثنائي صارخا. سكالوني ما زال يتجنب التواصل البصري مع الجميع برأس تنظر إلى العشب أسفله، ثم ينسحب ويتجه لدكة البدلاء محاولا تمالك دموعه. يتناول رشفة من المياه ثم ينهض، وفي تلك اللحظة، ينهار باكيا، غير مُصدِّق ما أدركه للتو.

 

للدهشة، لم تكن تلك اللقطة الأولى لسكالوني بهذه الكيفية. عقب مباراة كرواتيا، وأثناء الاحتفالات، أظهرت الكاميرا التي تتابع ميسي لحظة اقترابه من مدربه، وكانت شديدة الغرابة بدورها؛ سكالوني كان يقف في الموضع نفسه من الملعب تقريبا، وقد لاحظ اقتراب ميسي ليُهنِّئه، ولكنه بدا متشككا في أن ميسي متوجِّه ناحيته فعلا، فظل ينظر أمامه متجنبا النظر في عينيه، بالتعبير الهادئ ذاته على وجهه، حتى احتضنه ميسي بالفعل، وحينها ربّت على ردفيه بالطريقة العصبية ذاتها.

 

في مقطع صوتي انتشر بعد النهائي ببضعة أيام، استخدم هرنان كاسياري، الأرجنتيني الكتالوني صاحب مقطع “ميسي الرجل الكلب” الشهير، عبارة شديدة الرومانسية في وصف مشهد التتويج: “لم يسبق لنا أن رأينا رجلا بسيطا على قمة العالم”. (8)

ليونيل الآخر، ليونيل سكالوني، كان رجلا بسيطا على قمة العالم بدوره، أبسط من ميسي بكثير، ولكن الثنائي يشترك في حقيقة أن كليهما كان إحدى ضحايا مارادونا بطريقة ما.

 

بعدها بأيام، ظهر مقطع آخر لدييغو قبل وفاته في أحد المؤتمرات الصحفية مجهولة المناسبة وهو يُهين ليونيل سكالوني علنا، زاعما أن الأرجنتينيين مجانين لمجرد التفكير فيه مدربا، وأن كأس العالم الوحيدة التي يمكن لسكالوني الذهاب إليها هي كأس العالم للدراجات البخارية. العبارة الأخيرة قيلت وسط ضحكات الحضور من الصحفيين والمراسلين. (9)

نعتقد أن دييغو لم يكن في وعيه عندما أطلق هذه التصريحات. بالطبع هذا احتمال دائم كلما تحدث مارادونا، ولكن لا يمكننا الجزم به قطعا. المهم أن سكالوني كان يرزح تحت ضغط مشابه، أقصر عمرا من ذلك الذي عاشه ميسي، بسبب الرجل نفسه؛ الذي يُصِر الأرجنتينيون على اعتباره إله كرة القدم.

 

في الواقع، لا شيء يُعبِّر عن سطوة مارادونا في الأرجنتين سوى حقيقة أنه امتلك الجرأة لانتقاد أي مدرب بعد ما فعله في 2010. سكالوني ليس مدربا بارعا، ومعايير اختياره لقيادة المنتخب عليها ألف علامة استفهام، بالضبط مثل مساعديه أيمار وصامويل وأيالا الذين لم يخوضوا تجارب تُذكر قبل هذه، ولكن حتى لو لم يكن سكالوني قد ركل كرة واحدة في حياته، فهو لن يصل إلى درجة تلقي نصائح التدريب من مارادونا، ناهيك بالإهانات. هذا هو المشهد الذي فات الكثيرين في تلك اللقطة التي شاهدها أكثر من مليونَيْ شخص من حساب واحد فقط.

 

أكثر ما يُحزن في هذا المشهد أن سكالوني نفسه صرَّح قبل مباراة المكسيك بدور المجموعات بأن مارادونا سيشاهد المنتخب من السماء، وأنهم ينتظرون إلهامه لتجاوز الموقف الصعب بعد الخسارة من السعودية في المباراة الافتتاحية. هذه هي درجة انسحاق الأرجنتينيين أمام الرجل. (10)

 

هذا ما يمنحك الشعور بأن هناك مارادونا آخر يتحدث عنه الجميع دوما غير الرجل الذي لم ينطق ويفعل سوى الهراء منذ اعتزاله، وكأن مارادونا الحقيقي، الذي تنفس وتفاعل وتحدث كل يوم حتى مماته، ليس إلا تعبيرا عن قيمة أخرى افتراضية، غير متحققة في الواقع، وكأن نسخته الحقيقية المحبطة لا تُرضي طموحاتهم.

 

في الواقع، لا نعتقد أن وصفه بـ”الرجل” دقيق؛ نحن نتحدث عن كيان اعتباري خارق، حوَّله الأرجنتينيون عبر الزمن، وبكامل إرادتهم، إلى طاغية، إلى جاثوم يقبع على صدر كل مَن يسوقه حظه العاثر للعب في المنتخب أو تدريبه، ومع الزمن، انغلقت الدائرة العبثية المفرغة على الجميع؛ الأمل الدائم في أن يكون هذا أو ذاك مارادونا القادم، ثم الغضب والهستيريا مع أول إحباط، ممزوجا بإحساس خفي بالرضا لأن أسطورتهم الخيالية لم تُخدش بالتكرار، ثم الاستقرار في تلك المساحة الآمنة المريحة حتى يأتي بائس آخر يُعيدون معه الكَرَّة.

 

مع الوقت والإحباطات المتتالية عبر أجيال الأرجنتين المختلفة، أدرك الأرجنتينيون أن الصورة الخيالية التي يحتفظون بها في رؤوسهم عن الماضي غير قابلة للتحقق، وبدلا من أن يراجعوها، أو يدفعهم ذلك إلى التفكُّر، استسلموا لحقيقة أن الدور الوحيد للحاضر في حياتهم صار تمجيد الماضي والتحسر عليه، لأن الزمن لن يجود بمارادونا آخر، أو لن يجود بما يعتقدونه ويتخيلونه عن مارادونا بالأحرى.

 

لقد انتهى كل شيء

المشهد الثالث أعقب مشهد سكالوني بثوانٍ، ورغم أنه لم يظهر في البث المباشر، فإن إحدى الكاميرات نجحت في التقاطه. شاهده في المقطع التالي من فضلك.

 

الأرجنتين بطلة العالم، وأول ما يفكر فيه ميسي عقب عناق باريديس هو أن يتوجه إلى عائلته في المدرجات فاتحا ذراعيه وكأنه يوشك على معانقتهم، ثم بمجرد أن يلاحظوه، يذهب إلى إشارة واحدة متكررة؛ التلويح بذراعيه بما يعني أن الأمر قد انتهى.

في تلك اللحظة، يأتي أحد الإداريين لمعانقته وتقبيله، ولكن ميسي يزيحه في صبر نافد لأن هناك ما هو أهم الآن؛ لقد انتهى كل شيء.

 

عائلة ميسي بكامل أفرادها ترد عليه بالإشارة ذاتها، ثم تتحوَّل حركة ذراعيه تدريجيا إلى الإشارة بالتحية. في الواقع، يبدو الأمر مربكا في تلك اللحظة؛ هل كان يُحييهم من البداية؟

 

التأكد يتطلب العودة إلى مشهد آخر وقع أثناء الاحتفالات التي أعقبت مباراة هولندا؛ أحد المقاطع يُظهِر أفراد المنتخب أثناء احتفالهم مع الجمهور الأرجنتيني، وميسي، على غير العادة، في مؤخرة الحشد، ثم بعدها يفارقهم ويسير وحده، مغمضا عينيه ورافعا رأسه للسماء، وكأنه يحاول سرقة بضع لحظات لنفسه، ثم ينزل سرواله ويشد قميصه محاولا تغطية وجهه، يتنفس الصعداء وكأنه قفز من أمام القطار في اللحظة الأخيرة.

هذا هو بالضبط ما حدث أثناء مباراة هولندا؛ ميسي قفز من أمام القطار في اللحظة الأخيرة، لأن أي نتيجة أخرى غير التأهل لنصف النهائي كانت لتجعلها كأس عالم فاشلة، وكانت لتُعيده إلى نقطة الصفر. هذه لغة جسد رجل أفلت لتوه من مصيبة، وليس رجلا تأهل لنصف نهائي المونديال للمرة الثانية في مسيرته. هذه لغة جسد رجل فاز للتو، ولكنه لا يفكر فيما قد يحدث تاليا، بل فيما كان سيحدث لو لم يفز.

 

هذا هو ما يجعلنا نعتقد أن إشارة ما بعد النهائي كانت تعني أن الأمر قد انتهى فعلا. الآن لنقف لحظة ونتخيل أي نوع من الاحتفالات هذا؛ لماذا قد يشير أحدهم بأن الأمر قد انتهى عقب الفوز بكأس العالم؟ لماذا لا يضم قبضتيه أو يرفع علامة النصر أو يضرب على صدره مشيرا للشعار؟

 

الإجابة بسيطة؛ لأن الحدث الأهم كان انتهاء الأمر فعلا، انتهاء المعاناة والاتهامات والتشكيك، ومرة أخرى، كانت تلك لغة جسد رجل يشعر بالخلاص، لا الانتصار. رجل يشعر بالتحرر. رجل يشعر بالارتياح الذي ينتابك بعد تسديد دَيْن ضخم، في حال كان دَيْنك هو كأس العالم.

 

في التسجيل الصوتي ذاته لكاسياري، تحدث عن مشاعره بصفته أرجنتينيا مهاجرا في كتالونيا عندما كان يرى مشاهد العداء لميسي في الأرجنتين، وكيف اهتز عندما حكى ميسي عن سؤال ابنه الذي لم يستطع الإجابة عنه أبدا: “لماذا يقتلونك في الأرجنتين؟”.

ميسي شاهد المقطع رفقة زوجته، ثم أرسل إلى كاسياري رسالة صوتية يقول فيها إنهما بكيا معا بعدها. رغم كأس العالم، ورغم كل الصور السعيدة وهو يرفعها وهو يقبلها وهو يحتضنها نائما، فكأس العالم ذاتها لم تُنسِه. عندما يحرق أهل بلدك قميصك، وينعتونك بأبشع الصفات، ويصل التطرف ببعضهم إلى إسقاط جنسيتك، فمن الصعب أن تُنسيك كأس العالم كل ذلك.

تلك الكأس مختلفة عن أي كأس، وما سبقها لم يحدث مع أي لاعب حملها من قبل. للمفارقة، أصرَّ الأرجنتينيون على أن تكون تلك الكأس الوسيلة الوحيدة لتعريف ليونيل أندريس ميسي، ورغم أنه لم يقتنع بذلك أبدا، فإنه سعد بنهاية كل ذلك.

 

ما الذي حوَّل الحصول على كأس العالم إلى فرصة للخلاص بدلا من فرصة للاحتفال؟ كيف أصبحت لحظة كتلك مجرد نهاية لمأساة طويلة؟ صدِّق أو لا تصدق؛ ذاكرة البشر.

 

كيف نتذكر ما نتذكره؟ وكيف ننسى ما ننساه؟ في تلك الحالة كانت الأكاذيب هي الطريقة؛ الأكاذيب التي حوَّلت الرجل الذي لم يتورع عن الغش كلما واتته الفرصة، بدءا بتسجيل الأهداف بيديه، ونهاية بدس المهدئات في زجاجات مياه الخصوم، ولم يجد بدا من مواجهة الضغوط النفسية والعصبية إلا بالمخدرات والمنشطات، إلى إله لكرة القدم، يُقاس عليه الجميع، ولا يُقاس بأحد.

 

هي الأكاذيب ذاتها التي حوَّلت الرجل الذي لم يتورع في 2010 عن الاختباء خلف كأس حققها من ربع قرن، والهروب من مسؤولياته، والتضحية بأفضل لاعبيه، إلى بطل مغوار لا يشق له غبار، يمنح الجميع دروسا في كيفية التعامل مع الضغوط وقيادة الفريق والالتحام مع الشعب، ويُجزم الجميع بأنه لن يتكرر مهما فعل الباقون، وأن أقصى ما قد يصلون إليه هو أن تُذكر أسماؤهم إلى جانب اسمه. (11)

 

صدِّق أو لا تُصدِّق؛ هذا الرجل (مارادونا) اعترف علنا في 2005 بأنهم تعمدوا تخدير لاعبي البرازيل في ربع نهائي مونديال 90، في المباراة الشهيرة التي بُنيت عليها الأغنية الأشهر “لن تنسي يا برازيل”، وكاد تصريحه أن يتسبب في توقيع عقوبة دولية على منتخب بلاده بعد تحركات الاتحاد البرازيلي القانونية، ورغم ذلك، صمدت الأكذوبة الأكثر إصرارا وتصميما في تاريخ كرة القدم، بل وتحولت إلى مدعاة للفخر. (12) (13)

 

الحقيقة بسيطة وواضحة رغم أنه لا أحد يريد التصريح بها، في تاريخ الأرجنتين الكروي، لم يكن هناك شيء أكثر قوة وتأثيرا من الأكاذيب. أكاذيب مقاومة للزمن والحقائق وحتى الاعترافات الشخصية. 36 عاما من الكذب قابلة للزيادة، ولا نحتاج إلى ذكاء اصطناعي لتوقعها، وعلى رأسها، جزء لا بأس به من حقيقة مارادونا.

المصدر: الجزيرة نت

تعليقات الفيسبوك

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى