منوعات

شاعر سوري: “إنّه الطيّب صالح أيّها الثرثارون”

هناك أشياء تحدث باعتيادية وبشكل متكرر وفي كل مرة نفاجأ بحدوثها. الموت أحد هذه الأشياء التي دائماً تداهمنا على غفلة ما، ونحن نرتب لشؤون الحياة التي نظن أنها طويلة. الموت مفاجئ أينما جاء ودائماً لا نكون مستعدين لقبول الأمر من دون دهشة: مات!.

هكذا فاجأنا رحيل الطيّب صالح الغني عن التعريف، وقبل أن يفاجئنا خبر رحيله كنا قد نسينا أن الرجل بلغ من العمر ثمانين حولاً.

ليس بوسع المرء أن يكتب كثيرًا عن الطيّب فلم يترك مبضع إبرة من جسده الروائي لم تغرز فيه دراسة نقدية أو بحث..

لكني أجد طريقة تعرفي «عليه» مازالت غير منطقية رغم حدوثها، ففي المرحلة الإعدادية كنت أثناء العطل المدرسية أساعد أهلي في الزراعة وكانت مهمتي الإشراف على المحرِّك المنصوب على بئر ارتوازي ليروي القطن.

في تلك الأرض الزراعية على مشارف قرية تتبع مدينة في شمال سورية تصنف بأنها مدينة نامية، وجدت كتاباً طمر جزء منه في الأرض، أخذته ونفضت عنه التراب لأجد أنه يبدأ في الصفحة التاسعة وبقية صفحاته كاملة.. شغفت بـ «القصة» وعانيت صعوبة في فهم بعض مفردات الحوار ولم أستطع التخمين بأي لهجة كتبت، إذ بخلاف لهجاتنا لم نكن نعرف سوى اللهجة المصرية التي تسرَّبت لنا من الكتب والمسلسلات.

كانت الأحداث تركض وكنت مسلوباً تجاه الحدث وأريد استباق الصفحات لأعرف كل ما حدث دفعة واحدة، انتقلت للعيش في القرية التي تدور فيها الأحداث وأصبحت أحد شخوصها رغم اختلاف تفاصيلها الاجتماعية عن قرانا إلا أني حينها لم أحس بالغربة، شغفت بسيرة «البطل» الذي «يبي يعرس».

قرأتها أكثر من مرة في حينها.. لأعرف فيما بعد أنها «عرس الزين» للطيب صالح، مازال الأمر وبعد أكثر من ربع قرن مثار استغراب لي كيف وصل «عرس الزين» إلى تلك الأرض الزراعية، في سهول قرية عدد الحاصلين فيها على شهادة الثانوية يعد على أصابع اليد الواحدة في ذلك الحين.

الآن أو قبل ذلك بكثير يمكن لي أن أتلمس لِمَ «عرس الزين» سحرتني، إنها أنشودة حب لإنسان عادي، بل إنه عادي في ندرته؛ ذلك أنه «بهلول» القرية الذي لا تكاد قرية أو مدينة تخلو منه. بقدرة ساحرة من الروائي «الطيّب» التقط عادية الحياة وعادية الأحداث وعادية الشخوص في قرية عادية أيضاً وشحنها بدلالات عميقة ونسج حكاية فريدة تنبع غرائبيتها وفرادتها من بساطتها.

يستحق الطيّب صالح أكثر من وقفة وأكثر من تأمل، إنه أحد النماذج الفريدة في الكتابة العربية قاطبة وليس في الرواية فقط، ليس لأنه مبدع، بل لأنه -أيضاً- قال ما لديه في بضع روايات سطرت اسمه كأحد عباقرة الرواية في العالم العربي، وأحد رواة العالم.

لم يمض في الثرثرة ولم يسترسل في كتابة روايات لن تزيد في رصيده كما فعل كتّاب «كبار» جفت قريحتهم وظلوا يثرثرون المزيد من الكتب البائسة مستندين على أسمائهم التي استهلكوها. كم من الكتّاب كان عليهم التوقف في مرحلة ما عن الكتابة، بل هناك كتّاب كان عليهم التوقف بعد كتاب واحد… القائمة طويلة، من زعماء الشعر إلى زعماء الكتابة الروائية إلى زعماء النقد والتنظير البائس.. والأسماء تتزاحم لتجعلنا في غنى عن ذكرها.

إنه الطيّب صالح أيّها الثرثارون.. رحل بعد صمت طويل، وظل حاضراً وسيظل حاضراً إلى أبد الكتابة. فلنتعلم منه إما الإبداع، أو الصمت حينما تكون الكتابة ثرثرة.

هوامش

*نشر بجريدة “النهار” البيروتية، العدد 536، 2 مارس 2009م.

**خلف علي خلف، شاعر سوري، من مواليد 1969.

المصدر: التيار

تعليقات الفيسبوك

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى