المقالات

د. الشفيع خضر سعيد يكتب: الأسس الموضوعية لإصلاح القطاع الأمني في السودان

*مواصلة لحديثنا في المقال السابق حول إصلاح القطاع الأمني/العسكري في السودان، نقول إن هذا المطلب له أسسه الموضوعية التي تكمن في التخريب الذي لحق بهذا القطاع على أيدي نظام الإنقاذ البائد. فبعيد تربعه على كرسي السلطة عبر الانقلاب العسكري في 30 يونيو/حزيران 1985، أراد تيار الإسلام السياسي في السودان جهاز دولة خالصا له تماما، خاليا من أي آخر ناقد أو له قدرة على التفكير المختلف، حتى ولو لم تكن لهذا الآخر أي علاقة بالسياسة، معتقدا ومقتنعا بأن هكذا هو السبيل لتثبيت أقدامه في الحكم. وبسبب هذه الرؤية القاصرة، التي تحوي ملمحا فاشيا في جوهرها، نفذ نظام الإنقاذ تلك المجزرة، غير المسبوقة في تاريخ السودان، عندما قام بطرد وفصل وتشريد الآلاف من العاملين في جهاز الدولة، واحتكار كل المناصب الأساسية في مفاصل الجهاز لصالح خلصاء النظام دون أدنى اهتمام بالكفاءة والقدرة على شغل المنصب. بل وجرت محاولات حثيثة لاحتكار المجتمع المدني والأهلي، بما في ذلك وسائط الإعلام والثقافة، وحتى إدارات الأندية الرياضية. وأمتدت المذبحة الكبرى لتشمل كل القطاعات النظامية، حيث تم فصل الآلاف من ضباط وجنود الجيش والشرطة، وعمل النظام حثيثا على تصفية أي محتوى قومي للجيش السوداني، وطمس تراثه وتقاليده العريقة القائمة على تأكيد وطنية وقومية الضباط والجنود السودانيين، وإحلال عقيدة الحزب الحاكم محل العقيدة القومية، والشروع في تحويل المؤسسات النظامية إلى أجهزة تابعة للحزب الحاكم عبر سياسات تجنيد كوادر وعضوية التنظيم والمجموعات الانتهازية الطيعة، وكذلك إنشاء أجهزة أمن ومخابرات تحت مسمى الأمن الشعبي تتبع أيضا لقيادة التنظيم الحاكم.

*وعلى الرغم من كل ذلك، وأيضا على الرغم مما كان يمارسه جهاز الأمن والمخابرات في ظل نظام الإنقاذ من قمع وإنتهاكات غير مسبوقة في تاريخ السودان الحديث، لم تطالب ثورة ديسمبر/كانون الأول بحل الجهاز، وبدلا عن شعار الحل رفعت مطلب إعادة هيكلته وتنظيمه بما يحقق استعادة قومية الجهاز وابتعاده عن الهيمنة الحزبية، مستفيدة من درس حل جهاز أمن الدولة بعد انتفاضة أبريل/نيسان 1985 ضد نظام نميري. فبعد الانتفاضة، وبسبب الممارسات القمعية التي كان يمارسها جهاز الأمن والمخابرات السوداني المتحكم فيه النظام، حاصر الثوار مبنى الجهاز مطالبين بحله حتى تحقق لهم ذلك. لكن، سرعان ما تبين لاحقا أن حل الجهاز كان خطوة غير موفقة، إذ ظل السودان، ولفترة طويلة، دون غطاء أمني واستخباراتي مما عرّض البلاد لاختراقات استخباراتية مكثفة، وسهّل للجبهة الإسلامية القومية مهمة تحضيرها لإنقلابها العسكري في يونيو/حزيران 1989.

*استفادت ثورة ديسمبر/كانون الأول من تلك التجربة، فلم تطرح حل جهاز الأمن والمخابرات وإنما نحت منحى آخر. فلأول مرة منذ استقلال السودان أُخضع القطاع الأمني للتشريح والتقييم والنقد بشكل علني، وذلك في ورشة العمل التي نظمتها مبادرة أساتذة جامعة الخرطوم بالتعاون مع مركز الأيام للدراسات الثقافية والتنمية تحت عنوان «التحولات الاجتماعية ومستقبل القطاعات الأمنية في السودان» والتي عقدت في الخرطوم بتاريخ 19 ـ 20 أكتوبر/تشرين الأول، 2019. شارك في الورشة أساتذة جامعيون وباحثون، خبراء من قيادات سابقة وحالية من قطاعات الجيش والشرطة والمخابرات، سياسيون ونشطاء من المجتمع المدني، شباب المقاومة في الأحياء، رجال أعمال، وخبراء الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات. وفي البداية، توافق المشاركون على أن تشمل أهداف الورشة: التأسيس لخلق مؤسسة أمنية قومية مستقلة، تأطير علاقة جهاز الأمن والمخابرات بالمجتمع وبقية مؤسسات الدولة وخلق رؤى قومية مشتركة بينهم، مراجعة القوانين التي تحكم جهاز الأمن والمخابرات بما يتوافق مع التغيير والمرحلة الانتقالية، وضع إطار لدور جهاز الأمن والمخابرات بما يخدم الأمن القومي والاقتصاد، مراجعة الهيكل العام لجهاز الأمن والمخابرات ومهام منسوبة ووضع رؤية مستقبلية لتدريبهم وتأهليهم.

*ومن أهم توصيات الورشة: أن يكون الجهاز مختصا بالأمن الداخلي والخارجي دون الحاجة إلى إنشاء جهاز أمن داخلي، أن تتواءم عقيدة الجهاز مع أهداف الثورة، وأن يخضع الجهاز في عمله ومهامه لسيادة حكــم القــانون، وأن لا تتعارض المبادئ والأطر الحاكمة لعمله مع المعايير والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان، وأن يراعى التوازن بين الحق في الحصول على المعلومة وحماية خصوصية المواطن، وأن تخضع جميع أنشطة الجهاز للرقابة لضمان عدم حدوث تجاوزات، وتحريم التعذيب وأي ممارسات تحط من الكرامة والإنسانية، وأن تتم مراجعة الشركات الاستثمارية التابعة للجهاز وإخضاعها للقوانين واللوائح المنظمة للنشاط الاقتصادي في الدولة، وكذلك إخضاعها للمراجعة الدورية.

*والجدير بالذكر أن الجهة المنظمة للورشة أعلاه ذاتها، مبادرة أساتذة جامعة الخرطوم بالتعاون مع مركز الأيام للدراسات الثقافية والتنمية، كانت قد نظمت بتاريخ 4 يوليو/تموز 2019، ورشة عمل حول مستقبل القطاعات العسكرية في السودان، ناقشت عشر أوراق بحثية أعدها خبراء ومختصون، وجاءت توصياتها في ثلاثة محاور هي:
1 ـ إصلاح المشهد السياسي ونزع العسكرة من السياسة.
2 ـ الاقتصاد والجيش والقطاعات المسلحة الأخرى.
3 ـ تسريح الميليشيات والحركات المسلحة وإعادة دمجها في الخدمة العسكرية أو المدنية.
ومن المهم والضروري جدا مواصلة الحوار العلني والشفاف حول إصلاح القطاع الأمني والعسكري، وحول صياغة إستراتيجية الأمن القومي السوداني، وذلك عبر الورش والسمنارات وغيرها، وصولا إلى التوافق حول هذه القضية المصيرية. وكما أشرنا في مقالنا السابق، فإن جهود إصلاح القطاع الأمني/العسكري، وجهود صياغة استراتيجية الأمن القومي السوداني، لا تستهدف المؤسسات العسكرية والأمنية والشرطية فحسب، وإنما كل مؤسسات الدولة، المدنية، وعلى رأسها القضاء والمؤسسات العدلية الأخرى، وكذلك المؤسسات العقابية والجمارك والمشاركين الذين يلعبون دورا في الإشراف على تصميم العملية الأمنية وسياسات الأمن القومي وتنفيذها وإدارتها، وغير ذلك من الكيانات التي تساهم في توفير الأمن للدولة ولشعبها. وبالطبع، هي ترتبط بقضية إعادة بناء الدولة السودانية لصالح كل مكوناتها القومية والاجتماعية، وسنواصل الحديث.

نقلاً عن القدس العربي

المصدر: اليوم التالي

تعليقات الفيسبوك

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى