المقالات

كاتب : كيف نتجاوز بالسودان خطر الانقسام الاجتماعي

السودان الجديد ـ من أسوأ السيناريوهات التي استدعاها تمرد الدعم السريع، سيناريو الانقسام الاجتماعي في السودان، لأنه، و بنظرة مفرطة في الأنانية و الاستغلال، استخدم النفير القبلي لإحراق البلاد، لأن هم تلك المليشيا كان كسب الحرب بأي كيفية، فعمدت في ذلك إلى (شراء ذمم)، عن طريق بعض قيادات القبائل، التي غررت بالشباب الطائشين من (صغار السن) للانخراط في هذه الحرب المصلحية، بعد أن ألبسوها ثوب القبلية، وأثاروا فيهم حميةَ جاهلية وأضغاناً جهوية قائمة على أوهام موروثة.
الحسابات الخاطئة صورت لقائد الدعم السريع أنه بإمكانه تحقيق النصر السريع بالجموع الكبيرة التي تزحف من الغرب لتجتاح العاصمة، مثلما فعل الإمام المهدي مع الحكم التركي المصري، حيث كان جيشه الذي حاصر الخرطوم، أكبر زحف قبلي شهده السودان.. ولكنه نسي أهم فارق بين الواقعتين، وهي أن زحف المهدي كان يصاحبه تأييد شعبي في كامل التراب الوطني، من غربه إلى شرقه، ومن شماله إلى جنوبه، لأنها كانت حرب تحرير، ولم تكن، كما هو الحال اليوم، حرباً أنانيةً للاستيلاء على السلطة السياسية، تستغل فيها العصبية القبلية..وحرب مثل هذه، بطبيعة الحال لن تجد في الطرف الآخر مؤيداً، بل لابد أن تجد فيه مناوئاً منافحاً مدافعاً عن نفسه وعرضه وماله.. خصوصاً بعد تجردت المليشيا عن الشرف، وأباحت للأغرار الطائشين من شباب القبائل، أموال الناس وأعراضهم!!.. ولم يكفها ذلك بل انزلقت إلى جريمة شرف أخرى حينما فتحت البلاد لأرتال مرتزقة الآفاق الأجانب الذين تدفقوا من كل حدب وصوب، ليشاركوا في أكبر عملية سلب و نهب و فوضى في تاريخ إفريقيا!!.
هذه الحرب، مصيرها إلى خمود وانتهاء، كما هو قانون الأشياء في هذه الأرض، ولكن الكارثة التي يمكن أن تخلفها هي (الانقسام الاجتماعي)، و آثارها على البلاد هي الأسوأ، إذا لم ينهض لها العقلاء الحلماء، لينزعوا في رفق وصبر عن جسد السودان هذه الشظايا القاتلة، والألغام الفاتكة التي زرعها، في نسيجنا الاجتماعي، طموح آل دقلو ونذالتهم غير المحدودة، في وقت لم يكن هذا النسيج قد تعافى بعد من آثار الصراعات السابقة!!.
إن قبائل العطاوة التي ساند شبابها تمرد آل دقلو، وكانت وقوداً رخيصاً لهذه الحرب الغشوم ، فحُمّلت جرائر هذه الحرب، أصبحت في نظر أكثر مكونات الشعب السودان، المسؤولة عن شقاء السودانيين وتشريدهم في البلاد، وفقدان ممتلكاتهم، وأمنهم وأمانهم!.. هذه النظرة من الصعب محوها، بعد كل ما مرّ به السودانيون من مآسٍ كان أبناء هذه القبائل سبباً فيها، ولم يفلح عقلاؤهم في إحكام سفائهم!!.. ولكن الخطورة الكبرى أن يتأسس على هذه النظرة انقسام اجتماعي، فهو أمر لن يجني منه السودان سوى الخراب والدمار.. ورغم كل تلك المرارة، فإن الواجب بعد الحرب معالجة تلك الآثار وتجاوزها!.
هذه القبائل، رغم كل شيء، هي جزء أصيل وجذر عميق لا يمكن فصمه عن النسيج الاجتماعي لهذه البلاد، وهي قبائل كان لها عطاؤها الذي لا ينكر في المنعطفات الكبرى في تاريخ السودان، فقد كانوا أبكار المهدية، و كما كانوا مادة الجيش السوداني، وقد حملوا على أكتافهم، مع غيرهم من أبناء السودان، عبء الدفاع عن البلاد، ضد المؤامرات الخارجية التي كان تحاك ضدها خلال عقد التسعينات والعقدين الأوَّلين من الألفية الثالثة، فقد صالت خيولهم وجالت في خلال حرب الجنوب و دارفور!!..رغم ما عرُف عنهم خشونة بدوية خلفت أثاراً غير طيبة، و لكنهم ساهموا في تثبيت أركان هذه البلاد مساهمات لا يمكن إغفالها!!..
و بقدر ما كانت مساهماتهم مشرفة، كانت السقطة التي جرهم إليها فريق من أبنائهم مروِّعة ومشينة، وقد ارتكب أبناؤهم جرماً في حق أنفسهم وفي حق قبائلهم، قبل أن يكون في حق السودان وشعبه!!.. و لكن هذه السقطة، في هذه الحقبة المحددة من حقب التاريخ، يجب أن لا تمحوا ما لهم من مآثر سابقة، ويجب أن لا تحذف حقيقة أنهم جزء من النسيج الاجتماعي، ولا تمحو كذلك حقيقة أن الذين قاموا بهذا الجرم طائفة منهم، فليس كل أبناء تلك القبائل منغمسون في هذه الفتنة، بل كثيراً منهم له مواقف مشهودة، وكثير منهم يقاتل في صفوف المدافعين عن الأرض والعرض..
إن أول الخطوات الصحيحة، للبناء السليم، هي ألا نجعل الماضي يشدنا للخلف.. في (ساحل العاج)، بعد الفتنة الطائفية التي صاحبت سقوط حكم الرئيس (غباغبو)، تجاوز المسلمون ما ألحقه بهم النصارى من تقتيل و تحريق، و كانت قياداتهم الدينية هي التي قادت الدعوة للمصالحة الوطنية التي أخرجت البلاد لبر الأمان!!.. و ما كانت (رواندا) لتتجاوز آثار مذبحتها الأبشع، لو لم تتجاوز آثار صراع الهوتو و التوتسي!!.. و لكن هذا لا يعني أن لا يتحمل المجرم جرمه، و أن يفلت بجريرته من العقاب!!.
إن أول الواجبات المرتبطة بهذا الأمر، بعد الحرب، هي أن تُقر تلك القبائل بفداعة الكارثة التي أوقع أبناؤها البلاد فيها، و أن تتحمل تبعات ذلك الإقرار، من؛ ضرورة التبرؤ من المجرمين، وتقديم الاعتذار لشعب السودان، كما تتحمل كذلك ما يفرض عليها في هذا الصدد، من تسليم المجرمين، ودفع التعويضات.. وهو أمر معروف في الأعراف القبلية.. و للدكتور السفير الدرديري محمد أحمد، أحد نجباء قبيلة المسيرية، مقال رائع في هذا الصدد!!.
و يجب كذلك، على الجميع، وضع المسألة في موضعها الصحيح، و هو أن هذه الحرب هي مؤامرة ذات أبعاد دولية، تُدار بأدوات محلية، استُغِلَّت فيها هذه القبائل، وأن ضرب التماسك الاجتماعي هو واحد من أهداف هذه المؤامرة، لأنه أقصر طريق لتحقيق هدف تقسيم البلاد!!.
و يجب على عقلاء السودان في كل القبائل وفي كل الجهات وفي كل القطاعات، أن يبذلوا جهودهم لإزالة آثار هذه الكارثة، ورتق الفتق الذي أحدثته هذه الفئة الزائغة، بأن يدفعوا سبيل تجاوز الفتنة، كما يجب على الدولة أن تعتبر هذه القضية، جزءًا لا يتجزّأ من معركة الكرامة التي تخوضها ضد ذلك التحالف الشرير من القوى الداخلية و الخارجية، حتى يخرج السودان من هذه الحرب بلداً كامل الأوصال، فلسنا بحاجة إلى أن نُلحق شلواً آخر من أشلائنا بالجنوب المبتور!!.

أحمد غباشي

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى