كاتب سوداني : سد جبل أولياء قنبلة موقوتة تحتاج للتدخل العاجل
السودان الجديد ـ سد جبل أولياء، الواقع على النيل الأبيض في السودان، هو أحد المكونات الحيوية التاريخية للبنية التحتية الوطنية في البلاد. تم إنشاء السد عام 1937 خلال فترة الاستعمار الإنجليزي-المصري بهدف أساسي يتمثل في تنظيم تدفق مياه النيل الأبيض و توفير المياه للمشاريع الزراعية الواقعة على مجرى النيل. يقع السد على بُعد حوالي 40 كيلومترًا جنوب الخرطوم، ويُعد منشأة متعددة الأغراض تؤدي دورًا محوريًا في أنظمة الري، والتحكم في الفيضانات، و توليد الطاقة الكهرومائية.
كما أصبح السد مع مرور الوقت أداة استراتيجية لإدارة الموارد المائية و تأمين الأمن القومي للسودان. منذ اندلاع الحرب السودانية في أبريل 2023، ظلت منطقة سد جبل أولياء والمناطق المحيطة به تحت سيطرة مليشيا قوات الدعم السريع.
ارتفاع مستويات المياه الموسمية والوضع الحالي
في هذا الوقت من العام (أكتوبر – ديسمبر)، تشهد مياه النيل الأبيض ارتفاعًا ملحوظًا في منسوبها نتيجة هطول الأمطار الموسمية في المناطق العليا من حوض النهر، لا سيما في شرق إفريقيا خلال ما يُعرف بـ “موسم الأمطار القصيرة”. تُسهم الأمطار الغزيرة، وبطء وهدوء تدفق مياه النيل الأبيض، في تراكم المياه في مجرى النيل الأبيض. في الظروف الطبيعية السابقة للحرب، كان يتم إدارة هذه التدفقات عبر بوابات السد لتجنب الفيضان في المناطق السفلى. ولكن احداث الحرب الحالية في البلاد قد أدت إلى تعطيل هذه الوظيفة الحيوية.
و لسوء الحظ، ففي هذا العام تحديدًا، سجلت بحيرة فيكتوريا وغيرها من المصادر العليا للنيل الأبيض، بما في ذلك بحيرة ألبرت ومستنقعات بحر الجبل في جنوب السودان، معدلات هطول أمطار غير مسبوقة. بلغت كمية الأمطار في نوفمبر 2024 في بحيرة فيكتوريا أكثر من 200 ملم، وهي مستويات تفوق بشكل كبير المعدلات السنوية المعتادة. كما وصلت مستويات المياه في بحيرة ألبرت إلى أعلى القيم المُسجلة في التاريخ الحديث.
تشير البيانات المناخية إلى أن معدل هطول الأمطار في حوض بحيرة فيكتوريا كان أعلى بنسبة 20% من المتوسط التاريخي، وذلك نتيجة لأنماط الطقس المتبدلة الناتجة عن تغير المناخ وتأثيرات الاحتباس الحراري. أدى هذا الارتفاع في كميات الأمطار إلى زيادة تدفق مياه النيل الأبيض، مما شكل ضغطًا إضافيًا على سعته مع تدفقه نحو المناطق السفلى. وبسبب توقف العمليات الروتينية في سد جبل أولياء، أصبحت كميات المياه المرتفعة تفوق طاقة النظام الطبيعي للتدفق، مما فاقم من خطر حدوث فيضانات واسعة النطاق في المناطق الواقعة شمال وجنوب السد.
تداعيات سيطرة قوات الدعم السريع على السد
منذ اندلاع النزاع في أبريل 2023، سيطرت مليشيا قوات الدعم السريع على سد جبل أولياء واستخدمته كقاعدة عسكرية وجسر لعبور النيل الأبيض، كونه يوفر لها وسيلة لربط مواقعها على الضفتين وتأمين خطوط الإمداد إلى المناطق التي تسيطر عليها في ولاية الجزيرة. أدى إغلاق بوابات السد من قِبَل قوات الدعم السريع إلى تفاقم ارتفاع منسوب المياه، وهو ما تسبب حالياً في غمر مساحات شاسعة في ولاية النيل الأبيض الواقعة جنوب السد. شملت الفيضانات الجزيرة أبا، بما تسبب في نزوح آلاف السكان، بالإضافة إلى إغراق أكثر من 80% من الأراضي المزروعة وتدهور الظروف البيئية والصحية. هذه الخطوة من قبل المليشيا، سواء كانت مقصودة بشكل استراتيجي أو نتيجة إهمال، أدت إلى تراكم المياه في المناطق العليا، مما زاد من احتمالية حدوث فيضانات كارثية.
تأثير الغارات الجوية للجيش السوداني على سلامة السد
شنت القوات الجوية السودانية سلسلة من الغارات الجوية على مواقع سيطرة مليشيا قوات الدعم السريع في محيط السد منذ اندلاع النزاع. و على الرغم من أن هذه الهجمات تهدف إلى إضعاف سيطرة الميليشيا، إلا أنها تُشكل تهديدًا كبيرًا للسلامة الهيكلية للسد، الذي يُعد منشأة قديمة. أي ضرر يلحق بالسد قد يؤدي إلى إطلاق كميات هائلة من المياه بشكل غير مُتحكم به، مما يتسبب في فيضانات مدمرة تُهدد حياة الآلاف وممتلكاتهم. حتى انهيار جزئي للسد قد يُنتج موجة من المياه تُحدث دمارًا يمتد إلى أم درمان، والخرطوم، والمناطق الشمالية من السودان.
المخاطر الإنسانية الناجمة عن الوضع الحالي
التدهور المتزايد في سلامة السد، نتيجة زيادة الضغط الهيدروستاتيكي بالإضافة الي تضرر بنيته الإنشائية، قد يؤدي شروخ او انهيارات تفضي إلى إطلاق كميات كبيرة من المياه نحو المناطق السفلى. كما أن ارتفاع مستوى الخزان قد يؤدي إلى تجاوز المياه لذروة السد، مما يُسفر عن تدفقات مائية ضخمة غير مُتحكم بها.
يفرض هذا الوضع مخاطر شديدة ذات تأثير كارثي:
1. فيضانات واسعة النطاق: المناطق الواقعة شمال السد، بما في ذلك أم درمان والخرطوم وولاية نهر النيل والعديد من الجزر في النيل، معرضة لخطر الفيضان بشكل كبير. وسيؤدي غمر الأراضي السكنية و الزراعية إلى نزوح الآلاف.
2. الأزمة الإنسانية: تشير التقديرات الأولية إلى أن أكثر من مليون شخص قد يتأثرون بشكل مباشر بالفيضان في حالة انهيار السد، و سيمتد التأثير ليشمل عشرات الآلاف بشكل غير مباشر بسبب تدمير البنية التحتية والمنازل وسبل العيش الزراعية. غالبية هؤلاء الضحايا هم بالفعل من مجتمعات النازحين بسبب الحرب الذين يعيشون بالفعل في ظروف معيشية هشة.
3. الوضع في ولاية النيل الأبيض: تعاني مناطق مثل جزيرة أبا وغيرها من المناطق في ولاية النيل الأبيض بالفعل من الفيضانات. وقد أجبر هذا العديد من السكان على النزوح، مما أضاف إلى العدد المتزايد من النازحين داخليًا في السودان، المثقلين بالفعل بعواقب الحرب.
4. أزمة الصحة العامة: ستؤدي مياه الفيضانات المتوقعة إلى تلويث إمدادات المياه، ونشر الأمراض المنقولة بالمياه مثل الكوليرا والإسهالات بالإضافة الي الملاريا، والتي تنتشر بالفعل في السودان حاليًا، مما يؤدي إلى تفاقم الضغوط على نظام الرعاية الصحية المتعثر في السودان، والذي أعاقت الحرب أكثر من 70٪ من قدرته التشغيلية. وعلاوة على ذلك، فإن الركود المطول للمياه يخلق ظروفًا مواتية لانتشار المزيد من الأمراض المنقولة بالنواقل.
5. التأثير على المدى الطويل: ستؤدي القوة الهائلة لاندفاع المياه أيضًا إلى تآكل التربة وتدهور الأراضي على المدى الطويل. سيكون لتدمير المحاصيل وأنظمة الري ومصائد الأسماك تأثير طويل، وكذلك تدمير طرق نقل رئيسية والبنية الأساسية للاتصالات. كما أن دمار السد نفسه، و الذي هو أحد أصول البنية الأساسية للاقتصاد الوطني السوداني منذ ما قبل الاستقلال، سيكون في حد ذاته خسارة فادحة.
ما العمل: نداء عاجل لمعالجة الوضع
في ظل هذه الظروف الحرجة، تبرز الحاجة الملحة لأن تُولي الأطراف المتنازعة، القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، أولوية للسلامة الوطنية على مخططاتها العسكرية. ونظرًا لخطورة الوضع، فإن من الضروري توفير وصول فوري ومن دون عوائق لفرق تقنية هندسية محايدة للوصول الي السد، بحيث تقوم بتقييم السلامة الهيكلية للسد، و إدارة مستويات المياه، ومعالجة أي نقاط ضعف محتملة قد تؤدي إلى عواقب كارثية. ويجب منح هذه الفرق الضمانات الكافية لسلامتها لإجراء تقييمات شاملة، وتنفيذ الإصلاحات الضرورية، والأهم من ذلك إعادة فتح بوابات السد لتنظيم تدفق المياه.
اللجنة الدولية للصليب الأحمر هي الجهة الأنسب لتنسيق هذا الجهد و القيام بهذه المبادرة. بصفتها الراعية لاتفاقيات جنيف، ينبغي على اللجنة الدولية للصليب الأحمر أن تضطلع بدور محوري في تسهيل الدخول الآمن للفرق التقنية والهندسية والإشراف على عمليات الصيانة اللازمة.
توفر اتفاقيات جنيف الإطار القانوني لهذا التدخل، حيث تنص المادة 54 من البروتوكول الإضافي الأول وكذلك المادة 70 على حماية السدود باعتبارها بنية تحتية مدنية أساسية، إضافة إلى ضمان الوصول إلى هذه المنشآت لإجراء التقييمات والإصلاحات الضرورية كجزء من الإغاثة الإنسانية. كما ينص البروتوكول الإضافي الثاني من معاهدات جنيف، والمعني بالنزاعات المسلحة غير الدولية، في المادة 14 على حماية المنشآت الحيوية اللازمة لبقاء السكان، بما في ذلك السدود، و يحظر تدميرها إلا في حالات الضرورة العسكرية القصوى. هذه الأحكام القانونية تُعطي اللجنة الدولية للصليب الأحمر الأساس الشرعي للتدخل عند تعرُّض البنية التحتية المدنية للخطر بسبب النزاع.
إن اتخاذ هذه الخطوة أمر بالغ الأهمية لمنع مزيد من الفيضانات و تجنب الانهيار المحتمل للسد، مما قد يُسفر عن كارثة إنسانية ذات أبعاد مدمرة أكثر شناعة.
دعوة لمنع الكارثة: الحاجة إلى تدخل دولي راشد
إن الاهتمام الدولي بالوضع الكارثي حول سد جبل أولياء ليس مجرد ضرورة، بل هو أولوية ملحة يجب أن تُترجم إلى إجراءات ملموسة بدلاً من الاكتفاء بتصريحات جوفاء. هذه الأزمة ليست فقط نتاج النزاع الداخلي المستمر، لكنها أيضًا نتيجة للتأثيرات المدمرة للاحتباس الحراري و هي ظاهرة لا يتحمل السودان وشعبه إلا نسبة 0.06% من مسبباتها العالمية.
إنه لمن الظلم البالغ و غير المقبول أن تتحمل دولة ذات مساهمة ضئيلة إلى هذا الحد في تغير المناخ عواقب شديدة وغير متناسبة بهذا الشكل في ظل ظروف تعوق قدرتها الوطنية على التصدي لها.
يجب على المجتمع الدولي أن يتحرك فورًا، مستندًا إلى مبدأ “مسؤولية الحماية” (R2P) بصورته الأكثر نقاءً وأخلاقية، لتفويض تدخل عاجل يهدف إلى حماية الوضع في سد جبل أولياء ومنعه من التفاقم. لقد تم صياغة هذا المبدأ لتكون حماية الإنسانية فوق المصالح السياسية، و ليُمثل التزامًا عالميًا لمنع المعاناة الإنسانية والتخفيف منها. ولكن مع ذلك، وفي حالة السودان، أدى التسييس المتزايد لجهود الإغاثة و التدخلات الانسانية إلى تأخير التدخل الفعّال وزاد من تفاقم الظروف الكارثية على أرض الواقع. إن الوقت الحالي أكثر أهمية من أي وقت مضى لتتخلى الأطراف الدولية عن أجنداتها السياسية وتُركز على الواجب الأخلاقي و القانوني لمنع كارثة إنسانية، و هي كارثة ساهموا جزئيًا في تفاقمها من خلال تقاعسهم و تأثيرهم البيئي.
إن تدهور الأوضاع المتعلقة بسد جبل أولياء يشكل نقطة توتر حاسمة تهدد أرواح العديد من الابرياء، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر. إن الإخفاق العالمي في مخاطبة هذه الكارثة بشكل وقائي يعرض الوضع الكارثي الحالي للتفاقم، وهو ما سيترتب عليه آثار سلبية ممتدة. ومن الضروري أن تكون هذه التدخلات إنسانية ومحايدة وملتزمة بالمبادئ، تستند إلى القانون الدولي، بهدف العمل على استقرار حالة السد، و حماية الأرواح البشرية، والحد من المخاطر المتزايدة التي تسببت فيها النزاعات المستمرة والتدهور البيئي.
إن هذه الكتابة ليست مجرد مناشدة للمساعدة؛ بل هي مطلب للعدالة و المحاسبة.
يجب على المجتمع الدولي أن يعترف بمسؤوليته المشتركة في الأسباب الجذرية لهذه الازمة ومشاركته في التسبب في عواقبها
يجب أن تكون التحركات لإنقاذ هذا الوضع سريعة وحاسمة، وأن تسترشد بالقيم الإنسانية والعدالة. وأي تقاعس عن ذلك سيكون خيانة للمبادئ التي بُني عليها القانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان.
يجب على الأطراف المتحاربة و المجتمع الدولي أن يتصرفوا بسرعة لمنع سد جبل أولياء من أن يصبح رمزًا للإهمال في وطن مزقته الحروب.
أمجد فريد