السودان الجديد ـ معاناة حقيقية يعيشها طلاب الشهادة السودانية الذين يعيشون في مناطق سيطرة مليشيا الدعم السريع، فمع اقتراب موعد الامتحانات، التي أُعلن عنها في الثامن والعشرين من ديسمبر القادم، تبذل الأسر جهودًا مضنية وشاقة للعبور بأبنائها الممتحنين إلى مناطق وجود مراكز الامتحانات، ولكن رحلة العبور من مناطق سيطرة المليشيا إلى هناك، صارت ضرباً من المغامرة شديدة الخطورة!!.. بسبب التوحش المجنون الذي يتعامل به أفراد المليشيا مع كل من يحاول مغادرة مناطق وجودهم إلى مناطق الجيش!.
و في أم درمان مثلاً، صار السفر عبر الطرق القديمة، مثل طريق سوق ليبيا، التي كان يعبر منها المسافرون إلى كرري، معاناة مضنية، بل أصبح العبور من هناك أشبه بالمستحيل، فرجال المليشيا، وغالبهم من المجرمين العتاة، والفارين من السجون، بالإضافة إلى الوافدين من أصقاع الأرض من أجل النهب، قد نصبوا ارتكازات في كل بضعة أمتار على طول الطريق، ويقومون فيها بإذلال المسافرين إذلالاً شديداً، ولا فرق عندهم بين الرجال والنساء، أو حتى العجزة أو الأطفال!!..حيث يعرِّضونهم لتفتيشٍ مخزي، يشمل حتى تحسس العورات والمناطق الحساسة من الجسد، بدعوى أنهم قد يحملون شرائح لتوجيه المسيرات!!..وفي النهاية يتم نهب ما معهم من أموال وهواتف، ذكية كانت أم غير ذكية!!..أما إذا كان العابرون من الشباب، فالويل لهم مما قد يحيق بهم من أصناف الجحيم، والإرهاب الممنهج!!.
هذا بالنسبة للمسافرين العاديين، أما بالنسبة للطلاب الذاهبين لأجل الامتحان، فهذه في عرف عناصر المليشيا تعتبر جريمة كبرى وخيانة عظمى!!..كيف تذهبون للدراسة والامتحان ونحن نُضرب بالمسيّرات!!.. هكذا يكون شكل الأسئلة!! ثم تبدأ رحلة شاقة من الإذلال والإرهاب بل و التعذيب.. بل حكى لي أحد المواطنين، أن خبراً بلغه، عن اثنين من طلاب الشهادة، معروفين لديه بالإسم، كانا قد خرجا عبر هذا الطريق، قاصدين صوب محافظة كرري من أجل الامتحان، ولكن عناصر المليشيا، أوقفوهما واستجوبوهما، وأذلّوهما..وفي نهاية الأمر قتلوهما رمياً بالرصاص!!.
لذلك فإن الأُسر، تفضِّل السفر بتكاليف باهظة، عبر طريق آخر طويل تسلكه عربات نقل البضائع، يمر من قرى الجنوب الغربي لإم درمان متوغلاً غرباً في كردفان، ثم يتجه شمالاً إلى مدينة الدبَّة، حيث ينزلون في محطة (الملتقى)، ليستقلوا السيارات منها عائدين جنوباً إلى أمدرمان!!.. وأحياناً يستغرق التحضير لهذه الرحلة أياماً عدّة قبل السفر، حيث تتحرك السيارات، بعد الاتفاق على طوف للحماية مع بعض عناصر الدعم السريع، الذين يتقاضون مقابل تلك الحماية المزعومة مبالغ طائلة من المال، قد تصل إلى مليوني جنيه (2 مليار بالقديم) عن كل سيارة!!.. ولهذا يضطر أصحاب السيارات أن يتقاضوا من الركاب أكثر من مائة وعشرين ألف جنيه سوداني عن الراكب الواحد!!.. وفي أحيان كثيرة، رغم وجود طوف الحماية، تتعرض هذه القوافل للنهب من قبل مجموعات أخرى من أفراد المليشيا!!..حدث هذا أكثر من مرة!!.. رغم إصرار تلك العناصر الحامية على تقاضي مبلغ الذهاب و العودة كاملاً قبل بدء الرحلة!!..
عدد كبير من الطلاب، رغم الظروف القاسية التي يعيشونها، بذلوا جهدهم في الدراسة والاستعداد للامتحان، رغم عدم وجود مدارس.. و لكن العبور إلى مناطق الامتحان أصبح الآن بالنسبة لهم ضرباً من المغامرة غير محسوبة العواقب!!..وأصبحت الخيارات أمامهم محدودة؛ إما المجازفة والمغامرة التي قد تفضي إلى فقدان الأموال، وربما الموت!!..أو تجميد العام الدراسي، حتى ينجلي الأمر..
هذا الأمر ليس قاصراً على مناطق جنوب أم درمان فقط، ولكنه الحال في جميع مناطق السودان ومدنه التي تسيطر عليها المليشيا..أو التي بأمكانها أن تقطع على أهلها الطريق!!.. في مدن الجزيرة وقراها المنكوبة.. وبعض نواحي كردفان.. تستمر هذه المعاناة، ويعيش الطلاب بين الأمل والإحباط!!.
و لكن مع ذلك فإن كثير من هؤلاء، حتى الآن لم يفقدوا الأمل، رغم الأيام القليلة التي تفصلهم عن الامتحانات، ويتطلعون لأن تأتي الأيام القليلة المقبلة، بحسم التمرد إنهاء وجوده، فينفتح البال أمامهم للجلوس للامتحان!!..أو توجد الدولة حلّاَ لمشكلتهم!.
بالفعل، يجب على الحكومة التي أعلنت الامتحانات، أن تضع هذا الأمر في حساباتها وتوفر له الحلول!.. ولا تترك هؤلاء المساكين يواجهون مصيرهم وحدهم!!..فهم ما زالوا رعايا هذه الدولة، وليسوا رعايا المليشيا!!. ولكن قدرهم جعل مدنهم وقراهم، تُجتاح من قِبَل المليشيا التي لا ترجوا لله وقاراً، ولا ترقب في مؤمن إلّاً ولا ذمة!!.. يمكن أن تكون هناك حلول مثل؛ تفويجهم عبر (الهلال الأحمر) أو (الصليب الأحمر) أوغيرها من المنظمات التي تعمل في أجواء الحروب!!..فهؤلاء الطلاب ليسوا مسؤولين عن هذه الأوضاع حتى تتركهم الدولة ليدفعوا ثمنها!..فقد دفعوا كثيراً حتى الآن مثلما دفع الشعب السودان جريرة أوضاع تسببت فيها سوء تقديرات الساسة، وأخطائهم الكارثية!!..
أحمد غباشي