مصر وتغيير نهج التعامل مع المهاجرين
حددت السلطات مهلة حتى يونيو لتوفيق الأوضاع مقابل 1000 دولار ومراقبون: القاهرة لا ترحل أحداً
بعد سنوات من الحديث الرسمي العابر عن ملايين الأجانب المقيمين في مصر، الذي اكتفى بوصفهم بـ”الضيوف” وفق التعبير الذي عادة ما يستخدمه الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، بدأت الحكومة في الأشهر الماضية باتباع نهج جديد يهدف لرصد أعداد هؤلاء المهاجرين وتقنين أوضاعهم في مقابل رسوم مادية، وهي القرارات التي جاءت تزامناً مع أزمة اقتصادية حادة تشهدها البلاد.
أزمة أثرت بشدة في حياة 106 ملايين مصري وضيوفهم التي تذهب بعض التقديرات إلى أنهم نحو 9 ملايين شخص، معظمهم من دول عربية شهدت أزمات خلال العقدين الماضيين.
ففي الـ17 من فبراير (شباط) الماضي أعلنت وزارة الداخلية المصرية تحديد مهلة “للأجانب المعفيين من الحصول على إقامة لغير السياحة بالبلاد” حتى آخر يونيو (حزيران) المقبل، لاستخراج بطاقة إعفاء الإقامة، وإلا سيتم وقف الخدمات التي تقدمها الدولة لهم.
قرار استخراج “بطاقة إعفاء الإقامة” أصدرته الحكومة المصرية في نهاية أغسطس (آب) الماضي، بهدف تقنين أوضاع الأجانب الموجودين في البلاد بصورة غير شرعية، وتستخرج تلك البطاقة من خلال طلب لإدارة الجوازات والهجرة والجنسية مقابل سداد “مصروفات إدارية” بما يعادل 1000 دولار، على أن يكون هناك إقرار من مواطن مصري “مستضيف” بأن “الأجنبي مقيم طرفه وأنه مسؤول عنه مسؤولية كاملة”، وحددت مهلة لذلك ثلاثة أشهر.
اختلاف التقديرات
القرار الحكومي المصري هذا اعتبر غير معتاد في بلد يمكن فيه بسهولة ملاحظة وجود أعداد كبيرة من السودانيين والسوريين وغيرهم، فموجات الهجرة العربية إلى مصر ترافقت مع كل أزمة تمر بها أي دولة، بداية من الصراعات الأهلية في السودان خلال خمسينيات القرن الماضي، وحتى الحرب الدائرة حالياً في الخرطوم، وبينهما غزو العراق عام 2003 ثم الثورة الليبية عام 2011 والحرب الأهلية في سوريا 2012، ثم الحرب في اليمن 2015 إضافة إلى فرار أعداد كبيرة من الجنوب سودانيين بحثاً عن الرزق، وانعكس ذلك الوجود بالفعل في سوق العمل، فأصبح من المعتاد أن تجد محلاً يملكه سوري في عقار المستأجر فيه سوداني فيما يعمل الجنوب سوداني داخل أحد المحال المجاورة.
ثمة فارق شاسع بين التقديرات في شأن أعداد الأجانب في مصر، فبينما تقول المفوضية السامية لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة إن مصر تستضيف نحو 473 ألف شخص من اللاجئين وطالبي اللجوء المسجلة من 62 جنسية، وهو الرقم الأعلى في تاريخ البلاد، تشير التصريحات الرسمية المصرية إلى 9 ملايين “ضيف” أو يزيد.
تعد الجنسية السودانية هي الغالبة بين “ضيوف مصر” وفق التعبير الرسمي، إذ وصل عدد اللاجئين السودانيين المسجلين لدى مفوضية شؤون اللاجئين إلى 208 آلاف شخص، تليهم سوريا بنحو 154 ألفاً، ثم أعداد أقل من جنوب السودان وإريتريا وإثيوبيا واليمن والصومال والعراق.
في المقابل، قال رئيس الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في مصر، خيرت بركات، إن أعداد اللاجئين في البلاد بلغت نحو 9 ملايين شخص، وفق آخر فحص قبل الأزمة السودانية. وأشار في تصريحات صحافية في أغسطس 2023 إلى أن من بين هؤلاء 4 ملايين سوداني و1.5 مليون سوري، فيما بلغ عدد الفارين من السودان الذين استقبلتهم مصر منذ اندلاع الحرب في منتصف أبريل (نيسان) العام الماضي وحتى نهاية 2023 أكثر من 400 ألف شخص، وفق أرقام مفوضية اللاجئين.
وخلال يناير (كانون الثاني) الماضي، قال وزير الصحة المصري خالد عبدالغفار، إن هناك نحو 9 ملايين مهاجر ولاجئ يعيشون في مصر من نحو 133 دولة، بمتوسط عمري يصل إلى 35 سنة، يمثلون 8.7 في المئة من سكان مصر، لافتاً إلى أن 56 في المئة منهم يقيمون في خمس محافظات (القاهرة والجيزة والإسكندرية والدقهلية ودمياط).
وأضاف الوزير في بيان حكومي استند إلى ما جاء في تقرير المنظمة الدولية للهجرة أغسطس 2023، أن 60 في المئة من المهاجرين يعيشون في مصر منذ نحو 10 سنوات، وستة في المئة يعيشون باندماج داخل المجتمع المصري منذ نحو 15 عاماً أو أكثر، مشيراً إلى أن 37 في المئة منهم يعملون في وظائف ثابتة وشركات مستقرة.
“رقم مبالغ فيه”
لكن المتخصص في دراسات الهجرة واللجوء أيمن زهري يرى أن تبني الحكومة المصرية لرقم 9 ملايين لاجئ ومهاجر يرجع إلى عدم وجود رقم حصرته بنفسها، مقدراً العدد بما يراوح ما بين 5 و6 ملايين معظمهم سودانيون مقيمون بصورة طبيعية، واصفاً تبني منظمة الهجرة الدولية رقم 9 ملايين بأنه “مبالغ فيه ولا يصح تبني رقم لم نحصه بأنفسنا”.
وفسر زهري لجوء الدولة إلى حصر وتقنين وضع الأجانب أخيراً إلى أن مصر “وجدت نفسها في مأزق” لأنها لا تعرف كم عدد الأجانب المقيمين لديها، مضيفاً أن الدولة اعتمدت في الحصر على تقديرات الهيئات والمنظمات الدولية، وهو ما وصفه بالشيء المعيب، مشيراً إلى “الضغوط على السوشيال ميديا” وإن كان يقلل من ذلك العامل الذي وصفه بالمحدود لأن كراهية الأجانب في مصر “ليست بالشيء الكبير”.
أطفال من جنسيات أفريقية مختلفة يلعبون في السلوم على الحدود المصرية الليبية (2011 – أ ف ب)
وتابع أن بداية استقبال مصر المهاجرين واللاجئين إلى استقلال السودان عام 1956، حتى موجة التغيرات الدراماتيكية والاستراتيجية في المنطقة بعد 2011، ففي العام التالي بدأت موجة قدوم السوريين الذين استقبلهم المصريون استقبال الفاتحين، قائلاً “نحن نربأ أن نسميهم لاجئين” لطبيعة العلاقات الوثيقة مع دمشق منذ عهد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر ثم تبعهم الليبيون واليمنيون ومزيد من السودانيين منذ الأزمة الأخيرة.
وأرجع تساهل مصر في عدم تسجيل الأجانب في مفوضية اللاجئين وحصولهم على ختم لاجئ على أوراقهم الثبوتية طوال سنوات إلى أنه أمر “محرج لنا ولهم” ومراعاة لظروف الأشقاء النفسية الصعبة، بخاصة مع اعتزاز السوريين بالهوية القومية العربية.
نشاط حكومي
تركيز الدولة على ملف الأجانب بدا واضحاً في عقد اجتماع هو الأول من نوعه، لمتابعة ما تتحمله الدولة المصرية من مساهمات لرعاية ضيوفها من مختلف الجنسيات، إذ أكد رئيس الحكومة مصطفى مدبولي خلال الاجتماع في يناير الماضي أهمية تدقيق هذه الأعداد، وحصر وتجميع ما تتحمله الدولة مقابل ما يتم تقديمه من خدمات للمقيمين في مصر، “الذين يحصلون عليها على أفضل وجه مثلهم مثل المصريين” بحسب البيان.
حصر الخدمات الحكومية للمهاجرين فسره البعض على أنها محاولة لاكتساب مزيد من الدعم الدولي لرعايتهم، وإن لم يعلن ذلك صراحة. ورداً على ذلك، قال المتخصص في دراسات الهجرة واللجوء أيمن زهري في حديثه إلى “اندبندنت عربية” إن سعي مصر للحصول على دعم مالي من المنظمات والهيئات الدولية “حق” نظمه القانون الدولي تحت مسمى تقاسم الأعباء المنصوص عليه في الميثاق العالمي للهجرة وميثاق اللاجئين.
ولفت الانتباه إلى أنه لا يصح أن تتحمل الدولة المستقبلة وحدها عبء الظروف السياسية في دول أخرى، ويجب على العالم الوقوف إلى جانب مصر والدول مثيلاتها المستقبلين للمهاجرين، مؤكداً أن ذلك لا يعني ضغطاً من مصر وإنما يجب أن يكون الوضع الطبيعي.
وأضاف أن أموال الدعم لا تذهب للدول بل لمنظمات ترعى اللاجئين مثل المفوضية السامية لشؤون اللاجئين ومنظمات الإغاثة الدولية، مستشهداً بتسجيل مفوضية اللاجئين في مصر 480 ألف لاجئ بصورة رسمية، بينما حصلت على نحو 33 في المئة من قرابة 151 مليون دولار هي الحاجات المالية التي طلبها مكتب المفوضية في مصر العام الماضي لتلبية كل حاجاته، مشدداً على أن الدولة المصرية لا تتلقى دعماً مباشراً من أية جهة في العالم في ذلك الملف.
تقاسم الأعباء
كذلك يعتقد عضو المجلس المصري لحقوق الإنسان، عصام شيحة، أن مصر تسعى إلى تفعيل مبدأ تقاسم الأعباء مع الدول الأوروبية الغنية، من أجل الحصول على مساعدات ومساهمات منهم مقابل منع تسرب وهرب نحو 10 ملايين لاجئ لديها إلى أوروبا من البحر المتوسط، فمصر بمثابة “حائط سد”، وفق تعبيره، مؤكداً أن مساعدات أوروبا للاجئين غير كافية ومصر تتلقى “الفتات لرعاية بعض الأجانب الموجودين لديها”.
ووصف شيحة الأجانب الموجودين في مصر بـ”الضيوف المهاجرين”، مشيراً إلى أن من حق أية دولة تقنين أوضاع الأجانب الموجودين على أراضيها، بخاصة أن مصر لم تحصر عدد الأجانب بدقة بالغة، لأن من جاء عبر المطارات والمباني لطلب اللجوء أدخلته السلطات وطلبت منه أن يسجل نفسه خلال يومين في المفوضية السامية لشؤون اللاجئين وغالبيتهم لم يستجب. وأوضح أن من جاءوا كانوا من السودان وسوريا واليمن وليبيا وطالبوا الدخول إلى مصر باعتبارها دولة شقيقة.
وأعاد التذكير بأن مصر دولة مضيافة ورعاية اللاجئين من طبيعتها، واصفاً المطالبات على مواقع التواصل بطرد الأجانب بأنها مجرد “مناوشات” – على حد تعبيره – متعلقة بالتجار ورجال الأعمال وليس المهاجرين العاديين الذين اندمجوا مع المصريين كاليمنيين والفلسطينيين والسودانيين.
وأشار عضو المجلس القومي لحقوق الإنسان إلى أن عدداً ليس بقليل من الأجانب الموجودين في مصر يمتلك أموالاً ضخمة تنافس داخل السوق، والدولة تسعى إلى تقنين أوضاعهم بتسديد رسوم الإقامة لتخفيف العبء الاقتصادي الواقع عليها، مطالباً رجال الأعمال الأجانب بسداد الضرائب كأي مستثمرين مصريين وتعيين جزء من العمالة من المصريين كما يجري في أية دولة أجنبية.
غير القادرين
أما المهاجرون الذين لا يمتلكون المال فلن تقترب منهم الدولة، بحسب شيحة، الذي أوضح أن الدساتير المصرية منذ عام 1923 تضمنت أنه لا يجوز بأي حال من الأحوال إجبار طالب اللجوء أو اللاجئ على العودة لبلاده إلا لو قرر بنفسه أو كان يمثل خطراً على الأمن القومي المصري، مشيراً إلى أن محكمتي القضاء الإداري والإدارية العليا أصدرتا قرارات بإلغاء ترحيل بعض الأشخاص، لأن القضاء وجد أنهم لا يمثلون خطراً جسيماً على الدولة.
وعن موقف الممتنعين عن التسديد بعد انتهاء مهلة التقنين يونيو المقبل، قال إن القانون وضع غرامة تهديدية وتحث المقيمين على الدفع لعدم الوقوع تحت طائلة القانون، لكن في الوقت ذاته لا يمكن إجبار أحد على مهاجرة البلاد.
ويتفق مع ذلك الرأي المتخصص في دراسات الهجرة أيمن زهري، الذي توقع تمديد المهلة بعد انتهائها، مضيفاً أن “مصر دولة لطيفة وليست بلداً عنيفاً”، ولن تتجه إلى الترحيل القسري للأجانب إلى بلادهم.
نتائج عكسية
ويرى زهري أن فرض رسوم 1000 دولار مقابل تقنين أوضاع الأجانب أتت بنتائج عكسية، فبدلاً من إقدام الأجانب على تقنين الأوضاع ذهب معظمهم إلى مفوضية اللاجئين، لتقديم طلبات لجوء إلكترونياً ثم الانتظار في طوابير طويلة لإجراء المقابلات تمهيداً للحصول على التسجيل كلاجئ تفادياً لدفع الرسم الدولاري، مشيراً إلى ضعف الأعداد المتقدمة لتقنين الأوضاع أمام الإدارة العامة للجوازات والهجرة والجنسية لأن معظم هؤلاء الأجانب ليس لديهم المال الكافي، لذا اتجهوا إلى طلب اللجوء للحصول على إقامة موقتة. ونفى صحة أن يكون القرار الأخير متعلقاً بحل جزء من الأزمة الاقتصادية الحالية في مصر.
هذا الرأي يتفق مع تصريح الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي خلال مؤتمر صحافي مع رئيسة وزراء الدنمارك مته فريدريكسن، حين قال إن “مصر تستضيف… ولا نذكر كلمة لاجئ… أكثر من 6 ملايين إنسان… ولا تزايد لكي تتلقى شيئاً… يعيشون كمواطنين داخل مصر.. حتى تتحسن ظروفهم”. وأشار السيسي إلى أنه منذ “سبتمبر (أيلول) 2016 لم يخرج قارب واحد أو مواطن واحد عبر الحدود البحرية أو البرية لمصر إلى أوروبا… وده (هذا) التزام إنساني من مصر.. ومش هتكون (لن تكون) معبراً للهجرة غير الشرعية إلى أوروبا”.
العبء الاقتصادي
إلا أن التصريحات الحكومية أشارت في أكثر من مناسبة إلى “العبء الاقتصادي” لوجود المهاجرين في مصر، إذ قال رئيس الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء إن ارتفاع عدد اللاجئين يشكل ضغطاً على الاقتصاد المحلي، بخاصة في حجم الطلب على السلع والخدمات، إضافة إلى تأثيراتها في سوق العمل.
كما ذكر بيان لمجلس الوزراء أن وزارة التعليم توسعت في بناء فصول جديدة لاستيعاب الزيادة من الطلاب اللاجئين، إضافة إلى إدماج المهاجرين في خطة التطعيم الوطنية، وارتفاع كلفة دعم البنية التحتية الصحية اللازمة لتقديم الخدمات الطبية لهم، فضلاً عن توفير وزارة التموين حاجات السلع الأساسية لملايين من الضيوف.
وكثفت مصر من حديثها الرسمي حول ملف اللاجئين منذ اندلاع الأزمة السودانية، وطالب السيسي خلال مؤتمر دول جوار السودان في القاهرة يوليو (تموز) 2023، كل أطراف المجتمع الدولي بالوفاء بالتعهدات لدعم دول جوار السودان التي استقبلت اللاجئين السودانيين لتعزيز قدراتها على الصمود.
وفي حفل تخرج الكليات العسكرية في أكتوبر (تشرين الأول) 2023، قال السيسي إن مصر لديها “9 ملايين ضيف وليس لاجئاً من دول كثيرة بحثاً عن الأمان”.
ويدعم الاتحاد الأوروبي مصر في مجالات مكافحة تهريب البشر وأمن الحدود البحرية، فيما حصلت دول أخرى في المنطقة على مزيد من الدعم المالي لرعاية المهاجرين، مثل تخصيص 6 مليارات يورو لتركيا عام 2020 مقابل استقبالها اللاجئين، كما أسهم الاتحاد الأوروبي ودوله الأعضاء بأكثر من 10 مليارات يورو لدعم الأردن في استضافة اللاجئين السوريين، إضافة إلى مساعدة الأردنيين في مواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية بين 2011 و2023، وفق ما أعلنته بعثة الاتحاد الأوروبي بالأردن في بيان العام الماضي.
جريدة اندبندنت البريطانية