عودة عكسية للنازحين وسط الخطر والمعارك في السودان
بعد تسعة أشهر من حرب السودان بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، وصل السودانيون إلى مرحلة متقدمة من اليأس والبؤس بسبب طول أمد الصراع العسكري وتشردهم داخل البلاد وخارجها، خصوصاً في ظل وصول المعارك إلى مدن وولايات جديدة تؤوي الكثير من النازحين، الأمر الذي قاد الكثير من هؤلاء إلى تفضيل العودة إلى مناطقهم، لا سيما في العاصمة بمدنها الثلاث الخرطوم وبحري وأم درمان.
ومنذ اندلاع الصراع بين الجيش الذي يقوده عبد الفتاح البرهان، والدعم السريع الذي يقوده محمد حمدان دقلو (حميدتي) في 15 إبريل/نيسان الماضي، اضطر أكثر من 7 ملايين شخص للفرار من ديارهم، حسبما أعلنت مفوضية الأمم المتحدة للاجئين في 15 يناير/كانون الثاني الحالي، وأضافت أنه على الرغم من الجهود التي تبذلها المنظمات الإنسانية لتقديم المساعدة، فإن الوضع الإنساني لا يزال صعباً.
الوضع الميداني بين الجيش والدعم السريع
ولا يزال الجيش والدعم السريع يتقاسمان مناطق العاصمة، إذ يسيطر الجيش على منطقة الشجرة العسكرية جنوب الخرطوم، وأجزاء من الأحياء حولها مثل حي جبرة، وكذلك معظم مناطق مدينة أم درمان مثل أحياء الثورات ومحلية كرري.
وتقدم الجيش خلال الأيام الماضية نحو شارع الأربعين وأم بدة وأم درمان القديمة، وبعض مناطق مدينة الخرطوم بحري. وتتمركز الدعم السريع في القصر الجمهوري وسط الخرطوم، وباتت تسيطر على مناطق متعددة في جنوب المدينة، بعد السيطرة على منطقة جبل أولياء في أقصى جنوب الخرطوم، وكذلك أحياء الحاج يوسف في محلية شرق النيل في بحري، وهيئة الإذاعة والتلفزيون ومناطق صالحة والأحياء المجاورة لها في مدينة أم درمان.
حنان إسماعيل: انخفضت وتيرة المعارك في أماكن بعينها وتعايشنا مع الوضع
وتستمر الاشتباكات بين الطرفين في مناطق سلاح المدرعات والقيادة العامة والمدينة الرياضية في الخرطوم، وسلاح الإشارة وسلاح الأسلحة في بحري، وحول كلية القادة والأركان وسلاح المهندسين وسلاح الموسيقى في أم درمان، حيث يشن الجيش هجمات مكثفة في الأيام الأخيرة في مدينة أم درمان.
ووصلت المعارك بين الجيش والدعم السريع إلى جزيرة مروي، المدرجة على قائمة التراث العالمي في ولاية نهر النيل في شمال البلاد. ودانت “الشبكة الإقليمية للحقوق الثقافية” ما اعتبرته “دخول قوات الدعم السريع للمرة الثانية لموقعي النقعة والمصوّرات الأثري”.
وأضافت في بيان أن الدعم السريع دخلت الموقع الأثري للمرة الثانية الأحد الماضي، بعدما دخلته للمرة الأولى في 3 ديسمبر/كانون الأول الماضي. بدورها، أعلنت السلطات المحلية في ولاية نهر النيل، أن الدعم السريع “حاولت التسلّل عبر منطقة النقعة والمصوّرات وقد تصدّت لهم القوات الجوية”، مؤكدة عودة الهدوء إلى المنطقة.
وبعد هجوم الدعم السريع على مدينة ود مدني بولاية الجزيرة، وسط السودان، منتصف ديسمبر الماضي، تزايدت الحافلات التي تنقل الناس إلى العاصمة عائدين إلى منازلهم في مناطق لم تعد تشهد معارك مستمرة. ويتحرك النازحون في الغالب من ولايتي الجزيرة والنيل الأبيض المجاورتين للخرطوم، ومن مدن مثل ربك وكوستي والقطينة والمناقل، وعدد من القرى حول مدينة ود مدني.
مسار رحلات النزوح
وتشهد هذه المدن تسيير رحلات يومية عبر الحافلات الصغيرة والكبيرة نحو العاصمة، ويتجه بعض الناس نحو مناطق جبل أولياء وطيبة الحسناب والكلاكلة وأبو آدم ومايو الواقعة جنوبي الخرطوم، ويتوجه البعض الآخر نحو مدينة أم درمان عبر طرق مختلفة، فيما يتوجه آخرون نحو منطقة شرق النيل وأحياء الحاج يوسف في مدينة بحري.
يعتمد الكثير من السودانيين على أعمال صغيرة وحرف يدوية وعلى التحويلات المالية
وتنطلق الرحلات من مدينة ربك في ولاية النيل الأبيض، متوجهة شمالاً نحو الخرطوم، وتعبر مناطق سيطرة الجيش وبوابات التفتيش التابعة له حتى منطقة الأعوج، ثم تبدأ الدخول إلى قرى نعيمة ونزيهة ومدينة القطينة الخاضعة لسيطرة الدعم السريع، التي تنصب العديد من نقاط التفتيش وتمتد منطقة سيطرتها إلى داخل الخرطوم، مروراً بمنطقة جبل أولياء حتى منطقة الكلاكلة.
وتتفاوت أسعار تذاكر السفر حسب المنطقة التي يتوجه إليها المسافرون نحو الخرطوم، وقد ارتفعت الأسعار بسبب شح الوقود والاعتماد على الشراء من السوق الموازي، إذ بلغ سعر غالون البنزين 40 ألف جنيه (41 دولاراً)، والديزل 25 ألفاً (25 دولاراً)، وتتراوح التذاكر من مدينة ربك حتى الخرطوم بين 35 ألف جنيه (36 دولاراً) و20 ألف جنيه (20 دولاراً)، كون الدولار يساوي حالياً 970 جنيهاً.
وتظهر خلال الطريق الذي يدخل الخرطوم من الناحية الجنوبية، آثار الدمار في المنازل والمصانع ومحطات الكهرباء، وكلما تتوغل الحافلات التي تنقل العائدين إلى الداخل يبدأ الناس في الظهور مع حركة قليلة في الأسواق الصغيرة والمحال التجارية على جوانب الطريق وتزداد الحركة في منطقة مايو والكلاكلة، حيث ينتشر الكثير من الناس في أسواق ذات حركة مستمرة ووجود متواصل لمقاتلي الدعم السريع.
في مدينة أم درمان التي يسيطر الجيش على قسم واسع منها، يسكن الآلاف من الناس وتعمل بعض الأسواق، رغم الاشتباكات المتقطعة والقصف العشوائي، كما تعمل بعض أقسام الشرطة وينتشر الجيش والقوات المساندة له بكثافة، وتمّ خلال الأيام الماضية إصلاح بعض محطات المياه وعادت شبكات الاتصالات في مناطق متعددة.
وشجعت عودة خدمات الماء والكهرباء لعدد من المناطق، النازحين إلى العودة لأحيائهم التي لم تعد تشهد معارك واشتباكات يومية، ويعود غالباً الرجال الكبار والشباب لتفقد الأوضاع قبل إحضار أسرهم. وقد ساهمت عودة شبكات الاتصال في عدد من أجزاء العاصمة، في تناقل أخبار العودة والاستفسارات بين الناس عن الوضع الأمني وتوفر الخدمات.
أعمال صغيرة وحرف يدوية
وبات الكثير من السودانيين الذين فقدوا أعمالهم ووظائفهم بسبب حرب السودان يعتمدون على أعمال صغيرة وحرف يدوية لتوفير معيشتهم، ويعتمد جزء آخر على التحويلات المالية عبر التطبيقات المصرفية من أبنائهم وأقاربهم داخل السودان وخارجه، وكثيراً ما يتسبب انقطاع شبكات الاتصال في عرقلة هذه التحويلات، في ظل فشل توصيل المساعدات الإنسانية لكثير من المحتاجين إليها.
ويشكو العائدون من سوء أوضاعهم في الأماكن التي كانوا قد نزحوا إليها ونفاد مدخراتهم، وانعدام مصادر الدخل وشح المساعدات الانسانية، إلى جانب غلاء إيجارات المنازل ووصول المعارك إلى ولايات جديدة، ما دفعهم للتفكير في العودة على أمل اتفاق طرفي الصراع وتوقف الحرب.
وقال الحاج جمعة، الذي عاد من ولاية الجزيرة إلى حي الدخينات في جنوب الخرطوم، في حديثٍ لـ”العربي الجديد”، إنه يسكن حي أبو آدم لكن جيرانه لم يحضروا بعد، وقد اتفقوا على العودة معاً خصوصا بعد عودة الكهرباء للحي. وأضاف أنه تعب من البقاء مع أقربائه، لهذا جاء برفقة بعض أبنائه لتفقد الأوضاع والانتقال من الدخينات إلى منزلهم، وإحضار بقية الأسرة بمجرد عودة الجيران.
وأشار جمعة إلى أنه بالنسبة له أصبحت جميع الولايات مثل الخرطوم، وربما أسوأ، بسبب وصول المعارك إليها، وتشريد النازحين من مدينة إلى أخرى. وكشف أنه سيعمل في سوق منطقة الكلاكلة، مضيفاً أنه “من الأفضل أن نكون بعيدين عن المعارك هنا، لأن الدعم السريع يواصل مهاجمة مناطق جديدة، خصوصاً بعد سيطرته على مدينة ود مدني بولاية الجزيرة”.
وفي مدينة بحري تكتظ بعض أحياء الحاج يوسف في منطقة شرق النيل بالسكان الذين لم يغادروا أصلاً، إضافة إلى العائدين الذين شجعهم وجود الآخرين وعمل الأسواق، على الرغم من سيطرة الدعم السريع على المنطقة، إذ إن “سوق ستة” الشهير، حيث تعرض الكثير من السلع الغذائية يعمل. وكذلك بدأ الناس يعودون إلى أحياء هناك مثل حي الهدى والنصر وغيرها.
وأشارت حنان إسماعيل، التي تسكن حي الوحدة بمنطقة الحاج يوسف، إلى أن الحي شهد خلال الأيام الماضية عودة الكثير من الأسر. وأضافت في حديثٍ مع “العربي الجديد”، أن شقيقها وأقاربها عادوا إلى حي الهدى، رغم وجود الدعم السريع، حيث صارت الحياة أصعب في الولايات.
وذكرت إسماعيل أن “الناس يعودون حسب الوضع الأمني بالمنطقة المقصودة، بعد معرفة المعلومات من الموجودين هناك، فقد انخفضت وتيرة المعارك في أماكن بعينها وتعايشنا مع الوضع”.
المواطن عبد القادر جامع الذي عاد إلى منطقة الكلاكلة بالخرطوم، قال لـ”العربي الجديد” إن عمله توقف في قرية أبو قوتة بعد مهاجمتها من قبل الدعم السريع الشهر الماضي، لذلك عاد إلى جنوب الخرطوم، حيث تعمل المواصلات بصورة يومية. ومن المقرر أن يبقى جامع لممارسة عمله في بيع المواد الغذائية، تاركاً أبناءه في ولاية الجزيرة، على أن يحضرهم الشهر المقبل إلى منزلهم للاستقرار.
وأشار جامع إلى أن سوق الكلاكلة يعمل بصورة جزئية لكن حركة الناس تزداد بشكل مطرد، وتعمل بعض المخابز بصورة عادية، وكذلك سوق الخضروات واللحوم ومحال بيع وصيانة الهواتف. وأضاف أن “الناس يبيعون ويشترون وما يحصلون عليه يصرفونه على الطعام والمياه، في انتظار أن تنفرج الأمور بتوقف الحرب”.
العودة بانتظار انتهاء حرب السودان
من جانبه، اعتبر الباحث في قضايا النزوح عاطف كمبال، في حديثٍ لـ”العربي الجديد”، أن الحلول المستقبلية لمشكلة النازحين وعودتهم الطوعية إلى مناطقهم، تعتمد على مبدأ توفر الأمن والأمان، واختفاء المُهدد، أو المسبب الأساسي لعملية النزوح، لكن سكان الخرطوم كانوا شبه مهيئين من الناحية النفسية لكارثة الحرب.
وأضاف كمبال أن مسألة العودة الطوعية ستكون أسرع مما هو متوقع لسكان الخرطوم، حين تتوقف حرب السودان، وسيعودون إلى منازلهم ولن ينتظروا نداءات من الحكومة أو منظمات العمل الإنساني، أو أي إغراءات لتحفيزهم، لأنه يوجد ارتباط وجداني وثيق بين الخرطوم وسكانها. وأشار إلى أنها العاصمة ومركز وعصب الحياة والأعمال، وستكون العودة حقيقية وقائمة على الاختيار الحر، وهو الشرط الأساسي في عملية العودة الطوعية بالنسبة للنازحين.
ورأى كمبال أن عودة السكان إلى ديارهم وارتباطهم بها تُفسرها حالة الشغف واللهفة التي لديهم، ويظهر بعض ذلك في تصرفاتهم خصوصاً في نقاط العبور الحدودية بدول اللجوء، مثل مصر أو دولة جنوب السودان. فأغلبهم يرفض تقديم طلب اللجوء، لأنهم ببساطة يتوقعون العودة إلى مناطقهم بأقرب فرصة ممكنة.
وتوقع استغراق عملية التعافي من آثار النزوح والانتقال إلى مرحلة ما بعد الصدمة وآثارها والتعافي منها وقتاً أطول بالنسبة للسكان وكذلك المدن التي لحق بها دمار كبير، ولكن ستظل العودة الكاملة مرهونة بوقف حرب السودان أولاً.
العربي الجديد