حرب الخرطوم… أخطأت التقديرات وتشابكت الحلول
مع اقتراب وصول الحرب السودانية إلى شهرها الثالث، وضع كل من طرفي النزاع جهودهما على استمرارها، ومواصلة إلقاء اللوم على الطرف الآخر في خرق الهدن العديدة، والانخراط في حسابات خاطئة، على أمل أن أي دفعة إضافية من التوغل في مستنقع الحرب يمكن أن يحمل النصر لأي منهما أو أن يضعه في موقف أقوى لإملاء الشروط على الطرف الآخر.
ومنذ بداية الحرب، أعلن قائد الجيش السوداني الفريق عبدالفتاح البرهان أن المعركة ستنتهي بسرعة، وأن قواته ستسيطر على الخرطوم التي يبلغ عدد سكانها 8 ملايين نسمة في غضون أيام، ونتيجة لذلك ترك معظم سكانها أغراضهم المهمة على أمل العودة خلال يومين، وأخطأ البرهان في حساباته وظن أن قائد قوات “الدعم السريع” محمد حمدان دقلو (حميدتي) سينهار ويسلم أو تفر قواته من المدينة، وأدى ذلك إلى وقوع قيادة الجيش في كثير من الحسابات الخاطئة المتسلسلة، من أبرزها احتمال أن تصطف القوى الغربية في مساندتها.
وما يدل على ذلك وأن لا شيء يمكن أن يمنع الطرفين عن مواصلة الحرب، هو الأداء الانتحاري الأخير لكليهما والخسائر الفادحة في صفوفهما وصفوف المدنيين، ومحاولات إزالة كل ما يقف في طريقهما سواء أكان بسلاح الطيران أم على طريقة حرب العصابات، إذ استندت حسابات الجيش على فرضية أن “الدعم السريع” لن يصل إلى حد التصعيد، ومن ثم فإن الضربات الجوية سريعة الردع كان لها أثر واضح في ما أدى إلى إجهاد قدرتها على الإنتاج الدفاعي لاستمرار الحرب، ومن المؤكد كذلك أن قوات “الدعم السريع” أيضاً أخطأت في التقدير حين قللت من تقدير عزم الجيش على الدفاع عن نفسه وعن المواطنين.
اختلاف الحسابات
تثير هذه الحقائق العديد من الأسئلة العميقة والمثيرة للقلق حول خط سير الحرب هل كان متوقعاً ومرتباً له، أم فرضته تطوراتها؟ ويقول الباحث في الشؤون العسكرية والسياسية اللواء السابق أمين إسماعيل مجذوب “حرب المدن والشوارع لديها تكتيكاتها واستراتيجياتها وطرق إدارتها، وهي تختلف عن حروب الصحراء والحروب الجبلية والحدودية، لذلك هذه التطورات لا يمكن حسابها بالزمن، وأعتقد أن الحساب أصبح عصياً على القوات المسلحة وعلى “الدعم السريع” معاً باعتبار أن كل طرف كانت له رؤيته الاستراتيجية، سواء كان “الدعم السريع” بدأ هذه الحرب، مثلما كان قادته يقولون بغرض السيطرة على القيادة العامة لقوات الشعب المسلحة، ومحاكمة القادة وإعلان حكومة مدنية، أم الجيش الذي تركزت حساباته في أنه يستطيع أن يصمد وأن يطردهم من العاصمة في أيام معدودة، لذلك تختلف الحسابات باختلاف نوعية المدن واختلاف العدو وخطوط الإمداد، ومن يملك النفس الطويل هو من سينتصر في هذه الحرب”.
وأكد مجذوب “السؤال عمن بدأ الحرب ومن رتب لها ستظهر إجابته في النهايات وليس الآن، هنالك خبراء يعكفون على تحليلها ومراجعة يومياتها وتحركات وتسلسل المعارك الصغيرة داخلها، وفي النهاية سيتم التقييم وتحديد من الذي بدأها، وما إذا كان للأزمة السياسية دور فيها، أم هي حرب من خارج الحدود، أو صراع بين الجنرالات”.
وأشار الباحث في الشؤون العسكرية والسياسية إلى أن “الرؤية المستقبلية، لكل الحروب والصراعات مهما تكن لا بد أن تنتهي بتفاوض، ونية الحسم العسكري والتدمير النهائي، أقرب مثال لها حرب التيغراي في إثيوبيا، فبعد أن كان الميزان لمصلحة جبهة تحرير تيغراي مال لمصلحة الحكومة والجيش الإثيوبي، وفي النهاية عُقدت جولة مفاوضات في جنوب أفريقيا”.
حرب الخرطوم ستعيد ترتيب الحركات المسلحة في السودان (أ ف ب)
حرب الخرطوم ستعيد ترتيب الحركات المسلحة في السودان (أ ف ب)
ونبه مجذوب إلى أن “كل الحروب والصراعات في السودان أو خارجه انتهت بتفاوض سواء في ليبيا أو اليمن أو سوريا، وكذلك العراق ولبنان”ـ لافتاً إلى أن هناك طريقين للحل “الأولى سيناريو التدخل الدولي، ولكن سلبياته أكثر من إيجابياته، وتجربتي التدخل الدولي في العراق وأفغانستان تدلان على أن هذا الخيار غير مرحب به، أما السيناريو الآخر فيتلخص في مؤتمر ينتهي إلى مثل ما وصل له اتفاق الطائف بالوفاق الوطني اللبناني، ليحدد تفاصيل مستقبل الدولة السودانية وكيفية حكمها ونصيب كل مجموعة من القوى السياسية والمدنية والأهلية والعسكرية، ولا بد من تعيين حدود ومشاركة كل طرف من الأطراف”.
تهتك الدولة
ومن جانبه، يقول الكاتب السوداني رئيس تحرير صحيفة “إيلاف” السودانية خالد التيجاني “من الصعب تحليل وضع الحرب بالبينات الظرفية والأحداث الراهنة، نتيجة للتطورات السياسية التي حدثت سواء الاتفاق الإطاري، وما تبعها من دمج قوات الدعم السريع في الجيش السوداني أو التنافس بين البرهان وحميدتي، فهذه كلها أشياء شكلية”.
ومن وجهة نظر التيجاني فإن “وصفها بأنها حرب جنرالين أو صراع بين قوات الجيش و”الدعم السريع” وبعض القوى السياسية ستكون قراءة محدودة، لأن هذه الحرب هي التجلي الأخير لأزمة الدولة السودانية الحديثة، وهي الفصل الأخير في حياة النظام السياسي السوداني القديم الذي ظل يتشكل على مدار القرنين الماضيين، وجذور الأزمة تعود لتاريخ تأسيسها الحديث منذ دخول محمد علي باشا للسودان عام 1821 ووضع أسسها الحديثة بحدودها وتركيبتها وكل ما يتبعه من تشكيل الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي، مروراً بحقبة الثورة المهدية والاحتلال الإنجليزي ثم مجيء الاستقلال”.
ولفت الكاتب الصحافي إلى أنه “كان هناك تشوه واضح في بناء الدولة والأمة في السودان، وبالتالي تراكمت التشوهات حتى الوصول إلى حالة الانهيار التي ظهرت في حرب الخرطوم الحالية وهي في المحصلة النهائية نتيجة لتراكم هذه الأشياء على مدار قرنين من الزمان”.
وأضاف التيجاني “أعتقد أن هذه هي نهاية حقبة كاملة في تاريخ السودان، ولن تكون كسابقاتها من الأحداث السابقة والحروب الأهلية في الأطراف والتي كانت تنتهي بصفقات سياسية واقتسام السلطة والثروة بين المتصارعين، مما نتج منه تقاطع وتهتك الدولة وهي المرحلة الأخيرة في إشكالية البناء الوطني الحر، ونتيجة له حدث هذا الانفجار”.
تغذية الحرب
وأشار رئيس تحرير “إيلاف” إلى أن “بناء الدولة يعتمد على عوامل تاريخية بنيوية، وإضافة للإشكاليات التي حدثت في عمر الدولة الوطنية، ابتداء من أزمة النخبة في مؤتمر الخريجين 1938 وانتهاء بالتقلبات السياسية الأخيرة، فإن الإجابة على ذلك لا يملكها أي من الجنرالين طرفي الصراع، ولن يكون بإمكانهما كتابة السطر الأخير في هذه الحرب، ولكن سيُكتب بناءً على عوامل تاريخية وذاتية متعلقة بهشاشة بنية الدولة السودانية وهشاشة النظام السياسي السوداني نفسه بقواه السياسية المختلفة، والأخطاء الكبيرة في محاولة الفصل أو إعطائه شكل الصراع العسكري-المدني والذي في حقيقته هو نمط تفكير في السياسة السودانية ظل منذ تأسيسها غائباً عنها مصطلح الإصلاح الحقيقي بوجود قوى سياسية مدنية”.
اقرأ المزيد
هل يستجيب الشباب السوداني لدعوة القتال مع الجيش؟
هل يصمد طرفا حرب السودان بلا إمداد عسكري؟
الجيش السوداني يخطط لقطع الطرق أمام إمدادات للدعم السريع
وعزى التيجاني ذلك إلى أنه “لا توجد قوى مدنية سياسية حقيقية، إذ إن الموجودة الآن ضعيفة وهي التي أدت إلى عسكرة السياسة وتدخل العسكريين في السياسة نتيجة لأن القوى المدنية طوال تاريخها تستعين بالعسكريين لحسم صراعاتها، وهذا لا يعني أن العسكر ليست لديهم طموحات، ولكن ليست لديهم الجرأة على الإطلاق للعب دور سياسي إذا لم يكونوا مسنودين بقوى مدنية”.
وتابع التيجاني القول إن “هذه الحرب انعكاس لأزمة السياسة السودانية، وهي نوع من الصراع السياسي ولكن العسكرة هي الملمح الطاغي لطبيعة السياسة في السودان، بالتالي كل طرف يحاول الاستنصار بطرف عسكري لتحقيق أغراض ومكاسب سياسية، كما أن هناك أطرافاً خارجية لديها أطماع في البلاد، ويتعلق ذلك بوضعها كبلد كبير ولديه موارد ضخمة، ويراد له أن يظل محتفظاً بمخزون موارده لأطراف أخرى تريد أن تستغلها”، مشيراً إلى أن “وجود دولة قوية أو نظام سياسي قوي بإرادة وطنية حرة ستعمل على توظيف الإمكانات الاقتصادية لمصلحة الدولة، ووفقاً لذلك فإن عملية الإنهاك والصراع السياسي لعبت فيها قوى خارجية دوراً أسهم في تغذية الحرب”.
استغلال الجيش
في المقابل، قال أستاذ الاقتصاد السياسي في الجامعات السودانية حسن بشير محمد نور إن “الحرب كانت نتيجة لخلافات سياسية نتجت عن انقلاب أكتوبر (تشرين الأول) 2021 بعد أن اتخذ الفريق البرهان أنصاره من حزب المؤتمر الوطني الحاكم السابق حاضنين له ومكنهم من مفاصل الدولة حتى طمعوا في التفرد بالسلطة وكان أقصر الطرق لذلك هو استغلال الجيش”.
وفسر نور ذلك “وجد البرهان وأنصاره أن الدعم السريع يعترض طريقهم لإدراكه أنه سيكون أول ضحاياهم، فاتخذ تنظيم الإسلاميين قراراً استراتيجياً بالقضاء على الدعم السريع مهما يكن الثمن، ففجر الاتفاق الإطاري الصراع بين المكون العسكري”.
ولخص نور ذلك في ملاحظات عدة “إذ يرى أنصار النظام السابق أن الوصول إلى اتفاق نهائي وتشكيل حكومة مدنية سيبعدهم تماماً عن السلطة ويهدد مصالحهم. والثانية أن البرهان وبحسب تحالفه معهم أصبح يراوغ ويفرض شروطاً تعجيزية منها الدمج السريع لقوات الدعم في الجيش. والثالثة أن حميدتي أدرك حجم الاستهداف فأعلن دعمه الصريح غير المشروط للاتفاق الإطاري معلناً فشل انقلاب أكتوبر. أما الملاحظة الرابعة فهي إعلان أنصار النظام السابق التعبئة لإسقاط الاتفاق وحشدوا له وأقاموا التجمعات والإفطارات الرمضانية للتعبئة ودق طبول الحرب، فأصبح انفجار الصراع العسكري بين الجيش الذي تسيطر عليه قيادات إسلامية والدعم السريع مسألة وقت”.
ويؤكد نور “بحسب ما يتوارد من معلومات أن أنصار حزب المؤتمر الوطني من الإسلاميين في الجيش كانوا على قناعة بأنهم سينهون الحرب بشكل سريع وقد ظهر ذلك بالفعل في تصريحاتهم في الأيام الأولى بعد اندلاع الصراع، وهذا يرجح أنهم من بدأوا الحرب، إلا أن حساباتهم كانت خاطئة، فمثل هذه الحروب لا تنتهي بسهولة وخسائرها فادحة وإمكانية انتشارها وارد، خصوصاً مع حجم الدمار في الخرطوم والحريق الذي اجتاح دارفور بالكامل وبعض ولايات كردفان وولاية النيل الأزرق”.
سيناريوهات متوقعة
وتوقع أستاذ الاقتصاد السياسي أربعة سيناريوهات “أن تنتهي الحرب بالتفاوض إذا نجح المؤتمر الدولي في إقناع طرفيها وبإشراك القوى المدنية في المفاوضات، ولكنه بعيد من التحقق لعدم جدية المجتمع الدولي في التعاطي مع الأزمة والضغط بشكل فعال على الأطراف المتصارعة ومؤيدي الحرب والداعين إليها من الإسلاميين وحلفائهم”.
وتابع نور “السيناريو الثاني هو التدخل الخارجي عبر قوة مسلحة من الاتحاد الأفريقي تفصل بين القوات وتنفذ مبادرة إيغاد المدعومة من الاتحاد الأفريقي، ولكن هذا السيناريو يحتاج إلى الدعم السياسي والتمويل من المجتمع الدولي خصوصاً الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي”.
وواصل “السيناريو الثالث أن يستطيع أحد الطرفين (غالباً الجيش) حسم المعركة بدعم من الخارج، أما الرابع فانتشار الحرب وتحولها إلى حرب أهلية تقضي على الدولة السودانية خصوصاً بعد تحشيد الطرفين للمؤيدين وحملات التسليح، وهذا هو السيناريو الأسوأ والأشد مأسوية ولكنه ليس مستبعداً إذا لم يتم تدارك الأمور بسرعة وبحسم”.
توازن الضعف
في سياق متصل، نوه عضو مركزية الحزب الشيوعي السوداني كمال كرار بأنه “ينبغي تذكر أن طرفي الحرب في السودان كانا حليفين في كل ما يتعلق بالعداء لثورة ديسمبر (كانون الأول) وعرقلة أي تحول ديمقراطي، ومن ثم نفذا انقلاب 25 أكتوبر واتهما من قبل بارتكاب أحداث القيادة العامة، ولكن الخلافات ذاتها التي عصفت بالقوى المدنية في الصراع على السلطة ومحاولة الهيمنة على الفترة الانتقالية عصفت بعد ذلك بالمكون العسكري”.
ويرى كرار أن “التناقض الأساسي قبل الانقلاب وبعده بين طرفين يمثل الأول القوى السياسية والمجتمعية التي شاركت في الثورة وتريد استكمال مهامها وبرامج الفترة الانتقالية عبر حكم مدني انتقالي وهياكل سلطة مدنية، والثاني يمثل القوى السياسية والمكون العسكري وبعض أنصار النظام السابق الذين لا يرغبون في انتقال حقيقي وتحت زعم الشراكة يريدون أن يقودوا البلاد لانتخابات مستعجلة مزورة سلفاً”.
ويشير عضو مركزية الحزب الشيوعي السوداني إلى أنه “قياساً على إنذار الجيش للدعم السريع في الـ13 من أبريل فربما هو الذي أطلق الرصاصة الأولى بعد حشد الدعم السريع على مشارف قاعدة مروي، ولكن الطرفين كانا يستعدان فقط لحرب خاطفة تحسم خلال ساعات أو أيام، ولو كانا يعرفان المآلات لفكرا ألف مرة “.
ويؤكد “بعد ما يقارب الأشهر الثلاثة من الحرب ليس هناك انتصار حاسم لأي طرف ولن تنتهي بهزيمة أي منهما، نسبة لعمليات الكر والفر والقصف بالطيران مما أوقع خسائر مهولة وسط المدنيين، ولن يدخل الجيش السوداني والدعم السريع في معركة كسر عظم”.
وتطرق كرار إلى أنه “على رغم الإعلام التحريضي من الجانبين يبقى الموقف الصحيح هو رفض الحرب والدعوة لوقف إطلاق النار وإخراج الجيوش من العاصمة والمدن، والترتيب لسلام مستدام بجهود إقليمية ودولية، على أن تكون هذه الحرب نقطة فارقة تبعد الجيش من السياسة وتحل كل الميليشيات، ويستتبع هذا الحل أن تتحد القوى السياسية المدنية حول هذه الأهداف، مع ضرورة معاقبة من تسببوا فيها”.
وراهن على أن “توازن الضعف سيجبر الطرفين على التفاوض والمساومة، ولو لم تأخذ القوى السياسية المدنية بزمام المبادرة والضغط على جنرالات الحرب فسيحاولان مجدداً القفز على سدة المشهد السياسي بعد الحرب”.
اندبندنت