بدايةً، ليست لدى كاتب هذه الأسطر ذكريات شخصية عن العاصمة السودانية، كي يدوّن بعضاً منها في هذه العجالة، ولم يسبق له أن زارها، ولا يعرف عن بيئتها الاجتماعية أو عن تاريخها إلا نزرا يسيرا من معلومات عامّة، فيما لا يحضر من سيرتها الحافلة بالانقلابات والإخفاقات سوى بعض القادة الفاشلين، مثل جعفر نميري وعمر البشير وعبد الفتاح البرهان، غير أن أهم الوقائع الحاضرة ملء الذاكرة عن العاصمة المثلّثة احتضانها أول قمّة عربية بعد حرب العام 1967، والتي تبنّت ما صارت تُعرف باللاءات العربية الثلاث.
ليس الحديث هنا عن اليوميات المحزنة لشعبٍ تخلّى عنه العالم، ولا عن الجانب السياسي لعاصمة البلد العربي الأفريقي الغارق في حربٍ طويلة وضارية تتفاقم مع مرور الوقت، وإنما يدور الكلام عن لحظة منسية من زمن الخرطوم، أملت نفسها اليوم في خضم التغطيات الإعلامية المكثفة والاهتمامات السياسية الهائلة بمجريات الاقتتال بين الإخوة الأعداء، وأعني بها تلك الإشراقة التي شهدتها العاصمة السودانية عام 1955، وكادت أن تسقط من الذاكرة الجمعية، بما فيها الذاكرة الفنية، لولا أن أم كلثوم خلّدتها بقصيدة مغنّاة، وضع كلماتها الشاعر أحمد رامي ذلك العام، الذي كان فيه بلدا مجرى النيل يُشكّلان ما كان يُعرف في حينه باسم مملكة مصر والسودان (شطبها جمال عبد الناصر بجرّة قلم قبيل العدوان الثلاثي عام 1956).
وليت المرء كان يمتلك موهبة الإعلامي المخضرم والمثقف الموسوعي، عارف حجّاوي، الذي يواصل إطلالته الأسبوعية الشائقة من على شاشة تلفزيون العربي 2، كي يتمكّن، ببراعة هذا الحكّاء المدهش، من عرض تلك اللحظة التي أعادت الخرطوم المثقلة بالآلام، بعثها من تحت الركام، من دون أن يُثقل على مسامع المتلقين، أو يشتتهم بثرثرات من خارج السياق، سيما وأن الحاضر السوداني نفسه مثقل بالهموم والأوجاع، التي لا تحتمل الهذر مع واقع سيئ، والأسوأ فيه لم يأت بعد.
وبالدخول إلى قلب الموضوع المحمول على هامش الحدث السوداني الراهن، أتكئ على أسلوب عارف حجّاوي كي أحدثكم عن تلك الأغنية التي كنت أحبّها، لكنني كنت أكره مطلعها، الذي تشدو فيه أم كلثوم “أغار من نسمة الجنوب على محيّاك يا حبيبي” حيث كنت أقول في نفسي لنفسي: لماذا نسمة الجنوب الجافّة الحادّة، والمُتربة في العادة، وليس نسمة الشمال الرقيقة، أو الهواء الغربي الندي يا سيدة الغناء العربي؟ وهل كان الشاعر الغنائي الذي كتب لك هذا النص الرائع يجهل الفرق بين رياح السموم والرياح المبشرّة بالندى والمطر، كي يفتتح قصيدته بمثل هذا المطلع المثير للخواطر المشمئزة بالفطرة من هبوب ريح الجنوب؟ أليس في العربية الغنيّة بالمفردات والصور البيانية، تعبير أرقّ من هذا الاستهلال، الذي لا ينمّ عن معرفةٍ مناخيةٍ بغلظة هواء الجنوب؟
بقيت هذه الإشكالية قائمة لديّ كلما استمعت بالمصادفة لهذه المغناة في آخر الليل على إحدى الإذاعات التي لا تنام (FM)، حيث كنت أغضّ الطرف، بصعوبة، عن مطلعها غير الموفّق، إلى أن صدر قبل نحو عامين كتاب جديد عن حياة كوكب الشرق، تضمّن صفحات غير منشورة عن سيرة هذه السيدة العظيمة، ومن بينها أن أحمد رامي كان مغرماً بأم كلثوم، التي كانت سعيدةً بحبّه لها، إلا أنها كانت تمعن في تعذيب العاشق المتيّم بها، ففي خمسينيات القرن الماضي كانت المطربة ذائعة الصيت تغادر الأربعين بتمام ألقها، وكامل مشمشها (وفق محمود درويش) محط إعجاب المشاهير المتنافسين على مد حبل الوصل بها.
وذات يوم من عام 1955 سافرت أم كلثوم إلى الخرطوم لإحياء حفلة لها. ومن المعقول الافتراض أنها استقلت القطار البطيء، الذي يعمل بالفحم الحجري، لتقطع مسافةً لا تقلّ عن ألفي كيلومتر على طول مجرى النيل، ما يعني أن الرحلة استغرقت عدة أيام في الذهاب والإياب، الأمر الذي حمل رامي المتصبّب شوقا لمعبودة الملايين، على اجتراح هذه القصيدة الرائعة بمثل هذا الاستهلال، الذي بات مفهوماً أول مرّة، وفكّك تلك الإشكالية لديّ، طالما أن السيدة المعشوقة كانت في الجنوب البعيد من القاهرة. وبالتالي، ما كان للشاعر أن يبوح بغيرته، والحالة هذه، من نسمةٍ شماليةٍ ندية، أو رياح غربية طليّة نقية، ليقول في أحد أعذب أبياتها “وإنني من هيام قلبي وشدّة الوجدِ واللهيبِ/ أغار من نسمة الجنوب على محيّاك يا حبيبي”.
العربي الجديد