البرهان وحميدتي: صدام كان مؤجلاً بين منطق العسكريتاريا وطموح المليشيا
يحمل كلّ من قائدي انقلابات السودان المعاصرة، عبد الفتاح البرهان ومحمد حمدان دقلو (حميدتي)، في ماضيه الضد الموضوعي لسيرة غريمه: العسكريتاريا في مقابل المليشياوية، صرامة الجندي مقابل انفلات “رجل العصابة”، التدرّج في الرتب العسكرية مقابل الصعود السريع، الشهادات المنهجية مقابل الدربة والتجربة، عقلية الدولة المركزية العميقة مقابل عقلية الكيانات الموازية بين شتيت الطوائف والقبائل. رغم ذلك، كانت هنالك لحظات التقاء عابرة، أوجدتها الظروف والضرورات، من جهاز حرس الحدود، حيث كانت بؤرة نشاط مليشيات حميدتي، إلى الإشراف على الجنود السودانيين في حرب اليمن، وصولًا إلى اللحظة الحاسمة، عند الانقلاب على عمر البشير في إبريل/نيسان 2019.
هنا تحديدًا، فرضت المصلحة تنحية كل تلك النقائض، لمّا أدرك كل طرف حاجته للآخر، مرحليًّا، في مسعاه نحو السلطة. لكن كلًّا من الحاكم الفعلي للبلاد ونائبه ظلّ يراقب ويتحيّن لحظات الضعف؛ لأن ما عهدناه من تاريخ الانقلابات، وبالذات من تجاربنا العربية الحافلة، هو أن أطراف القوة فيها تظلّ في حالة شكّ دائم، لأن البديهة تملي أن من انقلب مرّة قد ينقلب ثانية حينما يرى في ندّه لحظة ضعف. هكذا ظلّ وجود قوات الدعم السريع في يد حميدتي، بعديدها وعدّتها اللذين يقارعان بعض الجيوش، مصدر شكّ دائم بالنسبة للبرهان، وفي المقابل، ظلّت مساعي هذا الأخير لإخضاع “الجنجويد” لإمرته مباشرة، بوصفه القائد الأعلى للجيش، مصدر شكّ دائم بالنسبة لحميدتي؛ وكان الصدام بانتظار الشرارة.
تحت جناح البشير
من المشتركات القليلة بين البرهان وحميدتي أنهما نالا الرتب والتمكين بأوامر مباشرة من الرئيس المخلوع. لكن في حين صعد البرهان السلّم المهني بما عرف عنه من انضباطية عسكرية وطاعة للأوامر، متدرّجًا من قيادة حرس الحدود، ثم قيادة القوات البرية، ثم مفتشًا عامًّا للجيش، ومن رتبة جندي صف، إلى رتبة فريق أوّل بصكّ من البشير في عام الثورة؛ كان طريق حميدتي نحو السلطة والنفوذ، في المقابل، غوغائيًّا، معبّدًا بالصفقات والثروة والمطامع الشخصية، داميًا في كثير من فصوله.
البداية كانت من تجارة الجمال على امتداد الحدود الغربية من مسقط رأسه في دارفور، عبر ليبيا إلى مالي فتشاد. على عكس القبائل الأفريقية التي تقطن في مأمن عند منابع الماء، وتعتمد بشكل رئيسي على الزراعة في معيشتها، كانت القبائل العربية في دارفور رعوية، وكانت الماشية والإبل مصدر رزق وحيد، مهدد دائمًا بالنهب والسرقة. ولجدارته في حماية قوافل التجارة، بدأ حميدتي، الذي غادر مقاعد الدراسة مبكّرًا، يكوّن ثروته، وكذلك نواته العسكرية.
بدأ اسم حميدتي يبرز كشخصية قيادية بين القبائل العربية؛ وهو ما سيمهّد له الطريق لاحقًا ليصبح أحد “أمراء الحرب” داخل مليشيا “جنجويد”، حينما أطلقت الحكومة السودانية يدها في دارفور عام 2003، لقمع تمرّد بدأته حركات مسلّحة تتبع للقبائل ذات الأصول الأفريقية بالمنطقة. اقترفت “جنجويد” مجازر دامية، وكلَّ ما يلحقها من جرائم الاغتصاب والنهب والحرق والتشريد، وهو ما لحقه إصدار مذكّرة قبض بحقّ البشير عام 2009 من قبل المحكمة الجنائية الدولية، في سابقة غير معهودة لرئيس لا يزال في المنصب.
شارك البرهان، أيضًا، في حرب دارفور بصفة قائد منطقة في الجيش، وكوفئ بترقيته لاحقًا إلى قيادة حرس الحدود، تمامًا كما كوفئ غريمه، دقلو، بتقديمه من قبل البشير على قائد “جنجويد” السابق، موسى هلال؛ ثمّ بعد تقنين المليشيا عام 2007 تحت مسمّى “استخبارات حرس الحدود”، وبعد منح دقلو رتبة عسكرية في 2009، أنشئت أخيرًا قوات الدعم السريع عام 2013، في خضمّ تجدد نشاط جبهة التمرّد في دارفور وجنوب كردفان، ونصّب حميدتي قائدًا عليها بأمر من الرئيس المخلوع.
في ذلك العام، تجاوز حميدتي مهمّته الدامية في الجنوب إلى مركز البلاد، الخرطوم، حيث أمعنت قوّاته في قمع تظاهرات العاصمة، وقتلت نحو 200 متظاهر.
بذور التمرّد
لحميدتي، على عكس الظاهر لنا من سيرة البرهان، تاريخ طويل من الوصوليّة على ظهور رؤسائه، ومن ابتزاز ذوي السلطة بمقدرته العسكرية، والتهديد علنًا بالتمرّد. أوّل عهده في هذا كان ضدّ قائد مليشيا “جنجويد” الأوّل، موسى هلال، وهو الذي منحه في الأساس دورًا قياديًّا داخل المليشيا خلال حرب دارفور. بعدما أخمدت مليشيات هلال التمرّد في الإقليم، بدأ حميدتي يتقرّب أكثر إلى البشير، حتى تعيينه قائدًا لـ”الدعم السريع”، وريثة “جنجويد”، في 2013.
بعد عام من ذلك، انشق هلال عن حزب المؤتمر السوداني الحاكم، وأقام تمرّدًا في معاقله بدارفور. انتدبت السلطة المركزية قوات حميدتي للتصدي له، وقد أتمّت مهمتها في عام 2017 باعتقال هلال. قبل ذلك، وتحديدًا في 2009، توعّد حميدتي السلطة المركزية بـ”حرب حتى يوم القيامة”، وبدأ يسعى في عقد تحالفات مع قبائل دارفور التي حاربها بالأمس، والسبب كان تقصير الحكومة في دفع رواتب جنوده. انتهى به الأمر متبوّئًا أوّل منصب رفيع، حينما عيّنه البشير مستشارًا أمنيًّا لحاكم جنوب دارفور، زيادة على دفع رواتب قوّاته بأثر رجعي، ومنحه وضبّاطه رتبًا عسكرية.
من لحظتها، صار حميدتي يسمّى بـ”الضابط العميد”. ينقل عنه معلّق “فورين بوليسي” قوله، معلّقًا على أحداث تلك الفترة: “لم نرد حقًّا التمرد، أردنا فقط جذب اهتمام الحكومة؛ أن نقول لهم: نحن هنا، من أجل أن ننال حقوقنا: الرتب العسكرية، المناصب السياسية، والتطوير في مناطقنا”.
آخر فصول التمرّد، خلال عهد البشير فقط، كان عندما لاذ إليه هذا الأخير من أجل قمع المعتصمين في مقرّ القيادة العامة للجيش، بعدما بدأ يستشعر أنه فقد ولاء رجاله في الجيش. رفض حميدتي ما أسماه “الوقوف في وجه مطالب الشعب”، لكن وصوله لاحقًا إلى الموقع الثاني في الهرم السيادي سيكشف عن مآرب أخرى.
مصالح عابرة للحدود
بعد إخماد ثورة دارفور، صرفت مليشيات “جنجويد” نشاطها إلى تأمين القوافل وحراسة الحدود من المهاجرين وتجار المخدرات. بذلك، صار لاسم حميدتي صدى في بعض الدول الأوروبية المهتمّة بكبح موجات الهجرة القادمة إليها من دول وسط القارة الأفريقية. كان حميدتي، وفق ما نشرت “فورين بوليسي” في تقرير يعود لعام 2021، يمسك بالمهاجرين ويعرضهم على شاشات التلفزة ليظهر للأوروبيين أنه الرجل المسيطر على الحدود. لكن وراء “الكاميرات” –تضيف الصحيفة- كان يبيع هؤلاء المهاجرين إلى المهرّبين في ليبيا تارة، ويبتز أهاليهم بأموال الفدية تارة أخرى. لم يكن هذا وحده مصدر الربح، فقد ظهر على شاشة التلفزة السودانية زاعمًا أنه “يعمل نيابة عن الاتحاد الأوروبي”، وهدده بفتح الحدود إن لم يؤدّ الأوروبيون له المال نظيرَ خدماته.
بعد سنوات من ذلك، وتحديدًا في عام 2016 سيعمل حميدتي بشكل وثيق مع غريمه اليوم، البرهان، حينما تلتحق قوّة من “الدعم السريع” بالقوات السودانية العاملة في اليمن، التي أشرف عليها الأخير بنفسه. انطوت هذه الخطوة على تطوّرين جوهريين في مسيرة حميدتي: أوّلًا، أصبحت قوّاته، رسميًّا، تابعة للجيش، وليس لجهاز الأمن والمخابرات كما كان عليه الحال حتى ذلك التاريخ؛ لأن مهمة هذه الأخيرة، تنظيميًّا، تنحصر داخل حدود الدولة، فكان لزامًا إلحاقها بالجيش من أجل العمل خارج البلاد؛ ثانيًا، قرّبت الحرب في اليمن حميدتي، وكذلك البرهان، من مسيّري القرار في السعودية والإمارات، اللتين سيكون لهما تأثير كبير في مجرى الأحداث عندما تتخذ منعطفًا حاسمًا بعد سنوات.
بحسب ما نقلت “فورين بوليسي”، على سبيل المثال، فقد ناقش الرجلان في وقت لاحق، بحضور مسؤولين إماراتيين وسعوديين، مرحلة ما بعد البشير. ما يعزّز هذا الافتراض أن الرياض وأبوظبي رحّبتا بإجراءات المجلس الانتقالي فقط بعد استقالة عوض بن عوف، وإعادة تأليفه تحت اسمي البرهان وحميدتي.
ركوب الموجة الثورية
رأى جنرالا السودان المتحاربان اليوم في ثورة السودانيين فرصة مؤاتية، وقد أظهر تسلسل الأحداث لاحقًا أن التقارير التي تحدثت عن ترتيبات بينهما وبين أبوظبي والرياض لم تشط عن الوقائع. ظهر البرهان، وهو الرجل قليل الظهور أساسًا، في ساحة الاعتصام أمام مقر القيادة العامة مطمئنًا المتظاهرين، بينما رفض حميدتي تنفيذ أوامر رئيسه بفض الاعتصام.
لكن حينما أعلن عن خلع البشير، وتعيين بن عوف قائدًا للمجلس العسكري الانتقالي، عاد حميدتي ولوّح بالتمرّد مرة أخرى، وأعلن على الموقع الإلكتروني لقوّاته دعم مطالب الثوار- الغاضبين في حينها على تمرير السلطة من الرئيس إلى نائبه. ثمّ خلال 24 ساعة، غادر بن عوف، ونائبه، مدير المخابرات في عهد البشير أحمد قوش، المجلس الانتقالي ليحلّ محلّهما البرهان، الذي حاز بعض القبول لدى المتظاهرين من خرجاته السابقة، وحميدتي. انتقل البرهان من موقع الرجل الرابع في الجيش إلى الطليعة، ورُقّي حميدتي إلى فريق أول، ليبلغ ثاني أعلى رتبة في الجيش في ظرف قياسي قدره 10 سنوات فقط.
بعد نحو 3 أسابيع من رفضه الاعتصام، ثمّ بلوغه المنصب، عاد حميدتي ليصف المتظاهرين بأنهم “مدمنو مخدرات”، ملوّحًا بأن المجلس العسكري لن يحتمل طويلًا “قطعهم للطرق”. ثم بعد زهاء شهر من ذلك، في 3 يونيو/حزيران 2019، قادت قواته مذبحة القيادة العامة، موقعة أكثر من 100 قتيل، ألقيت بعض جثثهم في النيل.
وفي مقابل البرهان، الذي أمسك على الدوام بصورة رجل الدولة العميقة إزاء التظاهرات ومطالبات الحكم المدني، كان حميدتي يرتدي من حين لآخر، وفق تلوّن المصالح وصفو العلاقات مع قادة الجيش، ثوب الثائر. هكذا على سبيل المثال، أعرب عن ندمه، قبل أسابيع على المشاركة في الانقلاب على حكومة حمدوك في 2021، وقال إن النظام الحالي يعيد إنتاج نظام البشير. حرص حميدتي، كذلك، على تسويق نفسه أمام المسؤولين الغربيين في مظهر المنفتح على التغيير والانتقال الديمقراطي، المحارب للتشدد والعصبية. ثمّ أدى أيضًا دور الوسيط بين الجيش والقوى المدنية في أكثر من مناسبة.
لكن يمكن القول إن الطرفين أمعنا في استخدام المدنيين لغاياتهما، إذ أعلن البرهان، مثلًا، أن توقيعه الاتفاق الإطاري الأخير مع تحالف قوى الحرية والتغيير كان لأنه “يدمج قوات الدعم السريع في الجيش”، متجاهلًا جوهرية الانتقال الديمقراطي والحكم المدني.
أيّد حميدتي الاتفاق الإطاري بدوره، لكن الخلاف كان حول الجدول الزمني لاندماج قواته في الجيش، ثم الجهة التي تتبع إليها. أراد قائد “الدعم السريع” أن تتمرحل تلك العملية في 14 سنة، بينما استعجل البرهان إنهاءها في سنتين- مع انتهاء الفترة الانتقالية. إلى جانب ذلك، اعترض حميدتي على بند تبعية قواته لقائد الجيش، واحتج بأنها يجب أن تكون تابعة لرئيس الدولة.
إجمالًا، تشي هذه الخلافات ببعض ما يخطط له الرجلان؛ فإصرار البرهان على إخضاع الدعم السريع لإدارته المباشرة يعني أن الرجل يفكّر في إبقاء الجيش ممسكًا بمفاصل القوة والقرار في الدولة، حتى لو أفسح الطريق أمام انتخاب حكومة مدنية بالفعل؛ ويبرر هذا الطرح تصريح سابق لحميدتي اتهم فيه العسكر بأنهم “لا ينوون ترك السلطة”. أما إصرار حميدتي، في المقابل، على إلحاق قواته بسلطة الرئيس، فيؤشر إلى أن مناورته القادمة هي الترشح للرئاسة، والإمساك بزمام التشكيلات العسكرية كافة؛ ويبرر هذا الطرح، من بين أمثلة كثيرة، نشاطه الأخير في تأليف روابط مع أعيان القبائل وزعماء الطرق الصوفية، وحراكه الاجتماعي بين القبائل مواكَبًا بحملة إعلامية تمتد حتى تطبيق “تيك توك”، ثمّ ما كشفه موقع “أفريكان إنتيليجنس” الفرنسي، ذو المرجعية الاستخباراتية، عن تعاقده مع الشركة الكندية “ديكنز آند ماديسون”، بإدارة الكندي الإسرائيلي آري بن ميناش، الذي ظهر اسمه سابقًا أيضًا في حملة إعلام وترويج أرادها خليفة حفتر حينما ظهر اسمه كمرشح لرئاسة ليبيا.
تركة البشير
ظلّ البشير ينظر إلى حميدتي بوصفه “الرجل الذي يحميه”، على ما نقلته “رويترز” عن مصادر مطلعة. لقد أراد البشير، المستريب كسائر الانقلابيين من كل من حوله، جيشا ثالثًا، زيادة على القوات المسلحة والشرطية، يكون بمثابة حرسه الخاص في حال خرجت الأمور عن السيطرة. وفي الوقت الذي كان فيه البشير يوزع الرتب والمناصب ومناجم الذهب على حميدتي وجنوده، نزولًا عند تهديدات التمرد تارة، ومكافأةً على حملات قمع المعارضين تارة أخرى، كان تاجر الجمال هذا يتوسع عدة وعتادا حتى صار له جيش مواز من نحو 100 ألف مقاتل. بدا وكأن البشير اعتقد أن الثروة والنفوذ ستقنع حميدتي بأن امتيازاته مرهونة ببقاء رئيسه، لكن الأخير أراد المزيد. على المقلب الآخر، كانت قيادات الجيش تزداد توجّسًا وحنقًا من هذا التمدد السريع، وهم الذين خاضوا سنوات مضاعفة من التأهيل والتدريب حتى وصلوا إلى ما وصلوا إليه.
لكن في المحصلة، فإن حالة حميدتي، الذي صنعه البشير وعزّزته حرب اليمن وطبّعه الغرب لاعتبارات تمتدّ من مكافحة الهجرة إلى تلبية رؤيتها للمنطقة، تقدّم لنا مثالا ملخِّصا عن كيف تتداخل مصالح الحكام الضيقة، وصراعات المعسكرات في الإقليم، ومطامع الدول الكبرى، في زرع ألغام التشظية والانقسام داخل بلداننا. يبقى الخاسر الأكبر هو ثورة السودانيين، الذين ربما يرون بلادهم وقد ارتدّت إلى فصل جديد من سلطة العسكر، وأحكام الطوارئ، وحال كحال سورية، أو اليمن، أو ليبيا.
العربي الجديد