ليس هناك من تفسير متماسك ومتكامل لحالة الإنسداد السياسي والأزمة الخانقة التي يعيشها السودان هذه الأيام سوى أن الصراع حول مستقبل هذا البلد قد بلغ أشواطه الأخيرة، وأن كل فريق من المتصارعين يرمى بآخر ما في جعبته من السهام ليظفر بالنصيب الأكبر ما دامت لم تتح له كامل السيطرة !!
أربع سنوات انقضت حتى الآن على إسقاط نظام الإنقاذ، والثابت أنه حتى الآن لم يستطع أيُّ طرف من الأطراف التي ساهمت في ذلك الإسقاط، سواء الأطراف الرئيسية أو الفرعية، تحقيق ما كانت تطمح إليه من نفوذ وسيطرة، وذلك لعدة أسباب منها ما هو داخلي يخص كل طرف على حدة، ومنها ما هو متعلق بطبيعة التحالفات التي جمعت هذه الأطراف من الأساس، ومنها ما هو متعلق بطبيعة المقاومة التي اعترضت سبيل تنفيذ تلك المشاريع.
في هذا المقال سأحاول التذكير بتلك الأطراف وشرح طبيعة مشاريعها، إذ من شأن ذلك أن يقودنا إلى فهم وطبيعة الصراع الذي يحتدم الآن، وربما يعيننا في التنبوء بمآلاته.
(2)
قبل أن يبسط نظام الإنقاذ سيطرته على السلطة، أي خلال الأسابيع الأولى، تشكلت في مواجهته معارضتان، أولى جنوبية ممثلة في الحركة الشعبية لتحرير السودان وهي معارضة كانت قائمة أصلاً، وقد أعلنت في اليوم الأربعين لوصول الإنقاذ للسلطة موقفها المناهض للنظام الذي اعتبرته “إسلامياً” وأنها ستناهضه عسكرياً وسياسياً؛ ومعارضة ثانية بدأت مدنية تمثلت في “التجمع الوطني لإنقاذ البلاد” والذي تم الإعلان عنه في دار أساتذة جامعة الخرطوم، وتمت إجازة ميثاقه في أكتوبر ١٩٨٩، ثم ما لبث كثير من قادته أن انتقلوا إلى خارج السودان، فآوتهم كل من لندن والقاهرة وعواصم أخرى.
وفي العام ١٩٩٤ تحولت المعارضة الشمالية “المدنية” إلى معارضة مسلحة، آوتها دولة أريتريا وفتحت لها معسكرات الجيش الأريتري في (ساوا) وغيرها للتدريب، كما نجحت جهود أرتيريا وبعض الأطراف الإقليمية في جمع المعارضتين الشمالية والجنوبية في جسم واحد، هو “التجمع الوطني الديمقراطي” ووحدت هيكله السياسي والعسكري.
(3)
خلال عقد التسعينيات، تعرض نظام الإنقاذ لضغط شديد بهدف إسقاطه، إذ أستغل موقف الحكومة من غزو العراق للكويت وحرب الخليج الأولى في ١٩٩٠ لعزله عن محيطه العربي، ولعب التجمع الوطني دوراً أساسياً في هذا المسعى، وزاد من محاولات العزلة والضغط الاتهامات الغربية المصنوعة بممارسة الرق (البارونة كوكس) والاتهامات بإيواء ودعم الإرهاب، والاتهامات بالضلوع في محاولة اغتيال الرئيس حسني مبارك في أديس أبابا في ١٩٩٥م.
وبلغت تلك الضغوط مداها حين وضعت الولايات المتحدة الأمريكية السودان في قائمتها للدول الراعية للإرهاب، وفرضت عليه حصاراً اقتصادياً، ثمّ سخّرت دبلوماسيتها لدعم معارضي النظام سياسياً وعسكرياً للدرجة التي اجتمعت فيها وزيرة الخارجية الأميركية وقتها، مادلين أولبرايت، بزعماء المعارضة السياسية والعسكرية في أوغندا، حيث أعقب ذلك ما سُمي بعملية “الأمطار الغزيرة” التي تعرض فيها السودان لغزو مسلح من أربع جبهات هي أوغندا وكينيا وأثيوبيا وأريتريا.
وباختصار شديد، يمكننا القول أنه خلال العقود الثلاثة التي حكمت فيها الإنقاذ، لم يغب هدف إسقاطها عن خصومها الذين يرون فيها نظاماً إسلامياً، ولم تتوقف مساعي معارضيها من محاولات توظيف مواقف قوىً دولية وإقليمية لصالح مشروع تشويه صورة النظام والسعي لإسقاطه بكافة الوسائل، كما لم تتوقف مساعي خصومها الدوليين والإقليميين في توظيف معارضي النظام لصالح أجندتهم، فأضحى بين هؤلاء المعارضين أصدقاء للدول التي دعمتهم وعملاء لها وحملة لجنسياتها !!
(4)
المشروع الذي أسقط الإنقاذ إذن، ليس ملكاً لجهة واحدة، بل هو مشروع فيه شركاء كثر، لم يجمعهم سوى كرههم لنظام يرونه إسلامياً، ويرغبون في ذهابه، ولعل هذا ما يفسر لنا أنه كان مشروعاً بلا محتوىً للحكم، اجتمع فقط حول شعار “تسقط بس”، غير أن حجم مساهمة كل طرف من هذه الأطراف في إسقاط النظام كان مختلفاً، نظراً لتعدد أوجه تلك المساهمة وطول أمدها.
ولا شك عندي في أن الطرف صاحب المساهمة الأكبر والأوسع هو الولايات المتحدة الأمريكية، فهي التي وظفت علاقاتها مع جميع دول الجوار السوداني، القديم والحديث، منذ التسعينيات، لتسهيل نشاط المعارضة وللضغط على النظام، فضلاً عن توظيف المؤسسات الدولية من أمم متحدة ومجلس أمن وصندوق نقد وبنك دوليين ومجلس حقوق الإنسان وغيرها، لعزل النظام وحصاره، وامتدت ضغوطها لتشمل الإتحاد الإفريقي فحرمت السودان من حقه في ترؤس دورة الإتحاد وقمته المنعقدة في الخرطوم في 2006، ثم اختتمت جهودها هذه بالضغط على دول خليجية لوقف أي شكل من أشكال الدعم الاقتصادي للنظام، بما في ذلك وقف تحويلات السودانيين العاملين بالخارج، في حين أن بعض هذه الدول انخرطت رسمياً في جهود إسقاط النظام وفقاً لمواقفها المستجدة من الربيع العربي وما تسميه بالإسلام السياسي، وليس سراً أن المملكة العربية السعودية والإمارات أصبحتا ضمن هذا الفريق!!
وحين أشرف العام 2018 على نهاياته، كان سيناريو إسقاط نظام الإنقاذ قد اكتمل، إذ أمكن لتحالف دولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وتحالف إقليمي يضم كلاً من إسرائيل والإمارات والسعودية، أن يخترق مؤسسات النظام التي كانت حصينة، وأن يُخادع قادتها ويقنعهم بأهمية الانخراط في جهود الإسقاط، بحجة فك العزلة الدولية، وإحداث تحول ديمقراطي.
وبطبيعة الحال كان لا بد لهذا التحالف الخارجي، بشقيه الإقليمي والدولي، أن يوظف المعارضين لصالح مشروع الإسقاط، على الرغم من أن هؤلاء المعارضين لا تجمعهم أجندة وبرنامج عمل، سوى الرغبة في إسقاط النظام، كما أسلفنا الإشارة.
(5)
نحن إذن نقترب من رسم صورة التحالفات التي أسقطت نظام الإنقاذ، فهناك تحالف خارجي يضم الولايات المتحدة الأمريكية وحليفاتها الغربية، وهو صاحب النصيب الأكبر في محاربة الإنقاذ ومحاولات إسقاطها، وقد كان هذا التحالف – على الدوام – على تنسيق مع طرف إقليمي هو إسرائيل، التي كانت ترى في علاقات الإنقاذ مع حركات التحرر الفلسطينية وخاصة حركتي حماس والجهاد الإسلامي، وعلاقات الإنقاذ مع إيران، خطراً على أمنها القومي.
وقد إنضم لهذا التحالف الخارجي في سنواته الأخيرة، دولتان خليجيتان هما السعودية والإمارات، كما سبقت الإشارة، وقد لعبتا دوراً مؤثراً في الحصار الإقتصادي على النظام، وفي تسهيل إختراق الدائرة الضيقة حول الرئيس البشير.
وهناك الطرف الداخلي، ويتمثل في شِقين، شق عسكري عبّر عن نفسه لاحقاً في ما يسمى بالمجلس العسكري، وشق مدني ممثل في تحالف قوى الحرية والتغيير.
بحساب بسيط، ونظرة موضوعية، نستطيع القول أنه لم يكن للمعارضة السودانية، مسلحة وغير مسلحة، أن تسقط نظام الإنقاذ، لولا الدعم والسند الخارجي الذي لقيته طوال الثلاثين عاماً. كما أنه لم يكن للتحالف الخارجي أن ينجح في مسعاه لإسقاط النظام لولا الالتفاف الذي قام به على اللجنة الأمنية للنظام موظفاً طموحات وسوء تقديرات بعض عناصرها الفاعلة.
(6)
إسقاط نظام الإنقاذ لم يكن هدفاً في حد ذاته، بل كانت القوى الدولية والإقليمية التي عملت بدأب على ذلك، تهدف إلى إعادة هندسة المجتمع السوداني سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، حتى تقطع الطريق أمام أية عودة محتملة للقوى الإسلامية إلى الحكم، إن لم نقل لمحو تأثيرها على المجتمع، وهي بالمناسبة ذات الأهداف التي تمّ وضعها حين تمّ غزو أفغانستان وحين تمّ غزو العراق، وإن تمّ تغليفها بدعاوى محاربة الإرهاب والشمولية وإقامة أنظمة ديمقراطية، وبطبيعة الحال فإن أفضل طرف داخلي يمكن توظيفه لهذا الغرض، في الحالة السودانية، هو المجموعة اليسارية والعلمانية في قوى الحرية والتغيير، وقد كان !!
ولأن هذه المجموعة، التي أطلق عليها لاحقاً إسم مجموعة المجلس المركزي، تعرف ويعرف داعموها، أنها ليست لها حظوظ تذكر في أي تحول ديمقراطي حقيقي ولا في أية إنتخابات حرة ونزيهة يمكن أن يتم إجراؤها، فقد تمّ تصميم فكرة إستدعاء المجتمع الدولي عبر بعثة “اليونيتامس” لتكون هي أداة القوى الخارجية، صاحبة النصيب الأكبر في مشروع إسقاط نظام الإنقاذ، بينما تكون القوى صاحبة النصيب الأقل، هي الواجهة التي يتم من خلالها تنفيذ خطة إعادة الهندسة، التي سميت بإعادة الهيكلة؛ وقد أرادت القوى الخارجية لهذه المجموعة أن تحكم البلاد لأطول فترة ممكنة دون إجراء إنتخابات، فحددت مدة عشر سنوات لاستكمال مشروعات الهيكلة في كافة جوانبها!!
(7)
مضت الآن أربع سنوات، ولم يحقق أي طرف من الأطراف التي ساهمت في إسقاط الإنقاذ، القدر المعقول من نجاح مشروعه، فتحالف الحرية والتغيير الذي تمّ تشكيله بلا برنامج، استنفد أغراضه، وتفرق أيدي سبأ، والنظام الذي كان مطلوباً التخلص منه وظنوا أنه سيتبخر بمجرد سقوطه وحظر نشاطه السياسي ومصادرة ممتلكات عضويته، عاد إلى حضن المجتمع وأضحى فاعلاً في الساحة، مما استدعى إعادة رسم الخطة من جديد، خاصة بعد الانتكاسة التي أصيب بها المخطط في أعقاب سقوط حكومة الدكتور عبد الله حمدوك، وبعد حدوث تطورات دولية وإقليمية ألقت بظلالها على الوضع في السودان، فتفتقت عبقرية المُلاّك الأساسيين للمشروع، عن فكرة دستور تسييرية نقابة المحامين وما تأسس عليه من إتفاق سياسي واتفاق إطاري، أملاً في إعادة ضبط المصنع !!
ولكي يتم ضمان قدر من النجاح لهذه الخطة، كان لا بد من تحييد “المكون العسكري” أو على الأقل شَقه، تفادياً لما حدث في 21 أكتوبر 2020، حيث لم تستغرق خطوة الإطاحة بحكومة الدكتور عبد الله حمدوك الثانية سوى بضع ساعات. وقد نجحت هذه الخطوة التكتيكية حتى الآن، إذ تمت استمالة قيادة قوات الدعم السريع، لتكون هي الظهير المسلح “الحامي” للمكون المدني!!
(8)
في الساحة السودانية الآن، يحتدم الصراع بين مشروعين، مشروع أجنبي، ترعاه الولايات المتحدة الأمريكية وبعض الأطراف الإقليمية، يهدف إلى إعادة هندسة الأوضاع في البلاد، بحيث تقل أو تنعدم حظوظ القوى الإسلامية وحلفائها في الوصول إلى المواقع المؤثرة في السلطة ولو عن طريق الإنتخابات؛ ويتخذ هذا المشروع من بعض القوى المدنية، ممثلة في مجموعة المجلس المركزي، واجهة ويرفع شعارات براقة من شاكلة التحول الديمقراطي المستدام والحكم المدني !!
ومشروع وطني وُلد من مخاض الحراك الذي أفرزته الساحة السياسية خلال السنوات الأربع الماضية، فبدلاً من وجود طرف مدني واحد يدعي إحتكار تمثيل “الثورة” أضحت هناك عدة أطراف تتبنى خط التغيير وتناهض المشروع الأجنبي في نفس الوقت، فهناك قوى التغيير الجذري، وهناك الكتلة الديمقراطية في قوى الحرية والتغيير، وهناك أيضاً قوى أخرى تطالب بسماع صوتها والأخذ بمساهمتها في تشكيل مستقبل البلاد، أبرزها تحالف نداء أهل السودان وتحالف التراضي الوطني.
وبين أصحاب هذين المشروعين يحتدم الصراع الآن، في حين لم تحسم قيادة القوات المسلحة السودانية موقفها تجاه هذا الصراع، فهي من جهة ترغب في علاقات طبيعية مع أصحاب المشروع الأول لكونها تريد علاقات طبيعية مع القوى الدولية والإقليمية المؤثرة فيه، وهي من ناحية أخرى تتعرض لضغوط داخلية من المؤسسات النظامية التي عرفت منذ وقت مبكر أنها هدف من أهداف التفكيك وإعادة الهندسة وأن الأهداف الأخرى التي يتم الترويج لها وُضعت لأغراض التمويه فقط .
صحيح أن نسبة نجاح المشروع الأصلي، حتى الآن، ضعيفة، نظراً لكون خُدامه منبتي الصلة بمجتمعهم، لكن الصحيح أيضاً أن الهدف الأساسي وراء إسقاط نظام الإنقاذ لم يغب عن واضعيه، وليس من المستبعد أن يعمدوا إلى خلق نموذج آخر لدولة مفككة وفاشلة، غير قادرة على بسط سيطرتها على كامل التراب الوطني.
المصدر: سودان تربيون