– تنهض الشعوب والأمم بجهود أبنائها الأوفياء فالمثابرة وإنكار الذات وتغليب المصلحة العامة والعقل الجمعي على الفكر الشخصي والانتهازي هي أولى لبنات التقدم الحضاري، سنأخذ مقتطفات بسيطة من مسيرة وإنجازات رئيس الوزراء الماليزي مهاتير محمد وارتقائه بدولة مثل ماليزيا الى مصاف الدول الصناعية ذات الاقتصاد القوي وكان لزاماً علينا في السودان الاقتداء بمثل هذه التجارب الناجحة لما نملكه من كل مقومات النجاح والتقدم ولكن كما جرت العادة نحب استنساخ ومحاكاة التجارب الفاشلة والمدمرة.
– استطاع مهاتير محمد أن يحول ماليزيا من دولة تعتمد بصورة مباشرة على الإنتاج الزراعي الى بلد صناعي بامتياز، ومن الأشياء التي لاحظها مهاتير أن الاعتماد الكلي على الزراعة فقط لن يصنع من الاقتصاد الماليزي قوة ضاربة ويجب التحول الكلي الى التطور الصناعي والتجاري والتكنولوجي مع الإبقاء على إنتاج الموارد الطبيعية للاكتفاء الذاتي والتصدير.. لا أريد أن أضع عبد الله حمدوك في أوجه مقارنات مع مهاتير محمد لأنه من الظلم والإجحاف فعل ذلك لفارق الخبرات السياسية الكبير بين الرجلين فحمدوك على المستوى الشخصي لا يختلف اثنان حول أدبه الجم وتهذيبه وهدوئه الشديد وعلى المستوى الثقافي والأكاديمي فهو يمتلك أرفع الشهادات العلمية، لكن هذا كله لا يكفي لقيادة دولة.. شخصية القائد وجرأة اتخاذ القرار في الأوقات الحرجة كلها صفات غائبة تماماً عن شخصية حمدوك الذي وجد دولة منهارة من كل النواحي بعد الإطاحة بنظام الإنقاذ وازداد الوضع سوءاً في وجوده.. فبدل حل مشاكل الإنتاج الزراعي والحيواني ومن ثم الانتقال والتحول الى المجال الصناعي.. انهارت المنظومة الزراعية وترك صغار المزارعين العمل الزراعي بسبب ارتفاع أسعار مدخلات الإنتاج وسوء قرارات الدولة الاقتصادية وتطبيق سياسات صندوق النقد الدولي المجحفة في حق الشعوب النامية.
– حكم مهاتير كرئيس للوزراء لفترة 22 سنة وامتدت مدة عمله السياسي متنقلاً عبر الوزارت المختلفة لأكثر من 40 عاماً بما فيها فترته وهو رئيس للوزراء وأول ما قام به مهاتير محمد بعد أن وجد دولة منهارة الاقتصاد ومفككة اجتماعياً وسياسياً هو محاربة القوة التقليدية المتمثلة في الملوك والسلاطين، فمن أجل الصعود للأعلى بأي دولة يجب التخلص من العوائق والأثقال التي تعيق هذا الصعود والتقدم وبنسبة كبيرة نجح مهاتير في ذلك بفرض قوانين قلصت بصورة كبيرة نفوذ السلاطين في وضع القوانين والمساهمة في الإدارة التنفيذية.. وعلى النقيض تماماً فشل حمدوك في محاربة نفوذ القوى القديمة متمثلة في فلول النظام السابق والأحزاب القديمة عديمة الجدوى بالإضافة لتدخلات العسكر ليصبح تائهاً ما بين عراقيل الفلول ومشاكسات الأحزاب الفاشلة التي لا هم لها سوى استلام مقاليد السلطة.
– عرف مهاتير أن نهوض الدول العظمى يبدأ بالتقدم الاقتصادي حتى قبل العسكري.. لذلك قام بتركيز جل اهتمامه بخصخصة الشركات وجذب الاستثمارات الأجنبية ولكن بشروط واضحة تضمن استفادة خزينة الدولة من هذه الاستثمارات سواء كانت وطنية أو أجنبية ومن أهم الشروط كذلك هو ضمان التوظيف والعمالة للمواطن الماليزي في كل المشاريع الصناعية داخل البلد.. ليصطاد مهاتير عصفورين بحجر واحد.. إنعاش خزينة الدولة واستمرار نشاط الشركات المخصخصة لحل معضلة البطالة.. لم يجد عبد الله حمدوك شركات أصلاً ليقوم بخصخصتها وهو معذور في ذلك واتجه للأسف بصورة كاملة نحو تنفيذ سياسات صندوق النقد الدولي المدمرة.
– من أهم أسباب نجاح فترة رئيس الوزراء الماليزي مهاتير محمد هو اهتمامه الجاد بالتعليم، فالمفتاح الأول لتقدم الشعوب هو محاربة الجهل وعدم المعرفة لذلك قام بتسهيل التعليم والدراسة في ماليزيا ودعم المدارس والجامعات والبحث العلمي وتقوية المناهج الدراسية لكل الفئات فالشعوب المثقفة والمتحضرة هي من تقود نفسها ولا خوف عليها.. عند استلام حمدوك رئاسة مجلس الوزراء سمعنا بتصريحات من مسؤولين تفيد بالعودة مجدداً لدعم التعليم ومجانيته واسترجاع السلم الدراسي القديم وتقوية المناهج الدراسية لمواكبة العالم، ولكن ما حدث كان يتناقض مع هذا الكلام فتم تجفيف المدارس والجامعات الحكومية وأصبح حق التعليم مكفولاً فقط لمن يمتلك المال بصورة أسوأ بعشرات المرات من عهد حكومة الإنقاذ.. في الوقت الذي وجه مهاتير كل إمكانات دولته نحو التعليم رفعت حكومة حمدوك يدها تماماً عن التعليم ليصبح لمن استطاع اليه سبيلاً.. ويسود التعليم الخاص لنرجع لعهد الأغنياء الأغبياء في قاعات وفصول الدراسة والفقراء الأذكياء متشردين للعمل في الأسواق والتفكير في الهروب والهجرة.
– وضع مهاتير خطة طويلة المدى للدولة الماليزية وكانت رؤيته واضحة جداً بأن تصل البلاد لمصاف الدول المتقدمة اقتصادياً بحلول العام 2020 وعلى الرغم من عدم الوصول لهذا الهدف المنشود إلا أن مهاتير محمد حقق طفرات كبيرة في الاقتصاد الماليزي واضعاً إياها في خانة ما يعرف بدول أشبال النمور الآسيوية بجانب إندونيسيا والفلبين وتايلاند وفيتنام.. محاولاً اللحاق بالنمور الكبيرة كوريا الجنوبية وتايوان وهونغ كونغ وسنغافورة..
فتميز العقلية الاقتصادية الفذة للسيد مهاتير ساعدته في تفادي الأزمة الاقتصادية الآسيوية التي بدأت بدولة تايلاند التي كانت مهدد حقيقي للاقتصاد الماليزي في العام 1997م قام صندوق النقد في ذلك الوقت بتقديم عدة نصائح وإجراءات اقتصادية للحد من الأزمة المالية، ولكن مهاتير برؤيته الفاحصة والدقيقة اكتشف أن تنفيذ قرارات صندوق النقد الدولي هو ارتهان للغرب وسجن لإرادة الدولة الماليزية ودخولها في مستنقع الديون وربط العملة المحلية بصورة كاملة مع الدولار الأمريكي.. فقام مهاتير برفض كل نصائح صندوق النقد الدولي، بل قام بالعمل عكسها تقريباً لتحدث المفاجأة وتتخطى ماليزيا الأزمة الآسيوية بصورة لا تصدق بعد فرض سياسات انضباطية اقتصادية داخلية مرتبطة بالإنتاج والصناعة والتحكم التام في الصادر والوارد وعدم فتح أي نوافذ مع صندوق النقد الدولي مدمر الشعوب والبلدان النامية.. ونلخص ما قام به حمدوك ووزير ماليته البدوي بالارتهان التام لكل سياسات صندوق النقد الدولي لنصل لكارثة تعويم الجنيه ورفع الدعم عن كل شيء له علاقة بالمواطن كالسلع الأساسية الاستراتجية مثل الدقيق وانهيار القطاعين الصحي والتعليمي بصورة شبه كاملة..
– وضع مهاتير محمد الدول الآسيوية التي سبقته اقتصادياً مثل كوريا الجنوبية وسنغافورة معياراً أسياسياً لكي يحذو حذوها ولم يفكر أبداً في محاكاة النماذج الغربية المعاصرة فدول جنوب شرق آسيا تختلف جيوسياسياً عن دول أوروبا والولايات المتحدة وكندا.. ومن أبرز تصريحات مهاتير محمد هي أن الشعب الأميركي جاهل للغاية ولا يعرف شيئاً عن بقية العالم ومع ذلك هم الأشخاص الذين يحددون مصير الآخرين.. فماهتير محمد لم يعادي الغرب ولكنه في نفس الوقت لم يقدم له فروض الولاء والطاعة العمياء كما فعل عبد الله حمدوك الذي فاقم الأزمة الاقتصادية التي تركها (الإسلاميون) برفع كل الدعومات عن شعب يقبع أغلبه تحت خط الفقر..
– ختاماً:
– استطاع مهاتير محمد وهو خريج كلية الطب من اكتشاف قدراته القيادية والسياسية منذ صغره ليقوم بتسخير هذه الإمكانات الفذة في جميع مناصب الدولة التي عمل بها وصولاً لرئاسة الوزراء ليرتقي بالدولة الماليزية اقتصادياً: (برفع دخل الفرد ومحاربة معدلات الفقر والبطالة بنحو غير مسبوق)، وسياسياً: (بتوحيد ماليزيا سياسياً بتحقيق اتفاقات بعيدة عن الروح العقائدية والعرقية)، وتكنلوجياً: (بالاستثمار في مجال الصناعات التكنلوجية) وتعليمياً: (بتحقيق طفرة كبرى في مجال التعليم كماً ونوعاً ودعم مجانية التعليم لأفراد الشعب ليصبح متاحاً للجميع دون صعوبة أو حصر على فئات معينة)..
– كنا نريد لحمدوك أن يستلهم تجربة ماليزيا ليصنع نموذجاً أفضل وأكمل من مهاتير محمد ونصبح مرجعاً أساسياً في تعليم الجميع عن كيفية التقدم واستنهاض الهمم من أجل الحصول على الرخاء والنماء والوصول لمصاف الدول العالمية القوية.. ولكن كما ذكرت سابقاً نحن أقوام نعشق استنساخ التجارب الفاشلة والتلذذ بآلامها وتصديرها لمن حولنا بكل فخر..
المصدر: اليوم التالي