“ستات الشاي”… استراحة سودانية مفتوحة على الهواء

أصبح بيع المشروبات الساخنة ملاذاً لكثير من النازحات من مناطق الحروب

في #الخرطوم، إن لم تكن بالمنزل أو مكان العمل فغالب الظن أنك تجلس على مقعد قصير مفتعل، مملوك لامرأة تبيع #المشروبات_الساخنة على قارعة الطريق.
العاصمة السودانية الحديثة التي لا تعرف المقاهي العامة وتنعدم فيها مقاعد الأرصفة، تركت مهمة الجلوس في الشوارع لتكون ضمن مهام “ستات الشاي” المنتشرات بكثافة عالية لا يمكن حصر أرقامها بدقة. ولم تفعل تلك النساء شيئاً كثيراً سوى أنهن نقلن بعض تقاليد المطبخ العائلي إلى الطريق العام ليصبح مصدراً للرزق.
للذين يعرفون ذاكرة الخرطوم القديمة فإن هذا المسلك اندلع قبل عقود قليلة فقط، وسرعان ما أصبح ثقافة عامة منتشرة في جميع المدن الإقليمية.

أسباب متعددة

في الفترة الأخيرة أصبحت مهنة بيع الشاي والقهوة ملاذاً لكثير من النساء بخاصة مع تمدد الحرب والنزاعات في بعض مدن البلاد واستقبال العاصمة الخرطوم النازحين وارتفاع معدلات الهجرة من الولايات.
زينب سعيد عطية تعيل أسرة من أربعة أبناء وبنات، ظلت منذ نحو 13 عاماً تنفق عليهم من عملها كبائعة شاي، بعد وفاة زوجها، وباتت تصارع ظروفاً قاسية، وتعمل بكد لإعالة أسرتها، وبحسب قولها “لم أنل حظاً من التعليم نظراً إلى طبيعة المجتمع الريفي، لكنني حالياً أكثر إصراراً على توفير كل ما يعين أبنائي في الدراسة، والآن ما يأتيني من دخل يكفي لتأمين المعيشة ومصاريف الدراسة”. وتضيف “منذ عامين توقفت حملات السلطات المحلية علينا ومصادرة أدوات العمل، لكننا لا نشعر بالأمان في ظل التراخي الأمني الحالي خصوصاً في الساعات الأولى من الصباح والفترة المسائية”.

المجاعة والفقر

من جهته قال المحامي والمستشار القانوني حاتم إلياس، إن “ظاهرة ستات الشاي أو النساء اللاتي يبعن المشروبات الساخنة في الأسواق والمحطات وأماكن التجمعات على الطرقات، بدأت في المجتمع منذ بدايات ثمانينيات القرن الماضي حين ضربت المجاعة أصقاعاً واسعة من السودان وأدت إلى هجرة أعداد كبيرة نحو الخرطوم التي لم تعرف مثل هذه الظاهرة من قبل، فكل اللاتي يبعن الشاي هن من النساء الريفيات القادمات من المناطق المتأثرة بالمجاعة، وهن خليط متعدد ليس حصراً على السودانيات فحسب بل فيهن من دول إثيوبيا وإرتيريا وتشاد”.
وأوضح إلياس أنه “مع تراجع ظاهرة المقاهي العامة التي كانت تتميز بها الخرطوم أصبحت ستات الشاي بمثابة مقاه عشوائية يجلس إلى مقاعدها الشباب وحتى النساء. وتطور عملهن وأصبحن ظاهرة حتى في أكثر أحياء العاصمة وشوارعها رقياً”.
وتابع “هناك اتهام لستات الشاي بترويج المخدرات، قد يكون هذا صحيحاً في حالات نادرة فهن قطاع واسع، لكن من خلال عملي كمحام لم أجد قضية متهمة فيها ست شاي بترويج المخدرات، هن نساء فقيرات وبسيطات وقادمات من طبقات مسحوقة ولا علاقة لهن بما يشاع، لأن هذه المهمة يتم الترويج لها في طبقات أخرى أعلى دخلاً وداخل الجامعات ومؤسسات التعليم ولا ترتبط بستات الشاي أبداً”.

معاناة مستمرة

كلتوم حسين تغادر منزلها بضاحية الكلاكلة جنوب الخرطوم بعد صلاة الفجر، مستخدمة أكثر من وسيلة مواصلات لتتمكن من الوصول إلى وسط الخرطوم قبل شروق الشمس، إذ تتخذ من “فرندات السوق العربي” مقراً لها، كما تحرص على نظافة المكان أولاً ومن ثم تضع “المنقد”، وهو وعاء مربع الشكل يصنع من حديد ويوضع عليه الفحم، إلى جانب الأدوات التي تتكون من العلب الفارغة تضع فيها البهارات والسكر وحب الشاي والقهوة. وتتراص مقاعد الجلوس التي يطلق عليها بالعامية “بنابر”، بعناية بعد رش الأرض بالماء، وهي تصنع من الحديد وحبال البلاستيك.
وتقول كلتوم، إنها تعمل ساعات طويلة لتوفير مستلزمات أسرتها الصغيرة، إلا أنها تواجه هذه الأيام مشكلة تراجع الدخل بسبب قلة الزبائن نتيجة الظروف الاقتصادية الصعبة التي يعانيها غالبية سكان العاصمة، علاوة على ارتفاع تعرفة المواصلات.
ولا تدري كلتوم التي تعيل عدداً من الأبناء والبنات ما الذي ستفعله في حال استمرار الوضع الحالي، وتقول إنه “عدا عن الموظفين، أصبح كثير من المواطنين لا يغادرون منازلهم ناحية الخرطوم إلا للضرورة القصوى لأن تعرفة المواصلات ارتفعت بشكل لافت”.

حالة مزاجية

وأرجع الباحث الاجتماعي أشرف حسن مرضي أسباب التفاف السودانيين حول ستات الشاي إلى “الحالة المزاجية لدى كثيرين”، وهو ما قاد الشباب إلى “الجلوس لساعات طويلة أمام بائعات المشروبات الساخنة وباتت هذه الأماكن ملتقى تثقيفياً يتم خلاله تداول أخبار الاقتصاد والرياضة والسياسة وفرص التوظيف، كما أن النساء اللاتي يعملن في هذا المجال لديهن قدرات خاصة في جذب الزبائن عبر الطقوس المتعلقة بالقهوة والشاي بدءاً من نظافة المكان وعبق روائح البخور علاوة على التعامل الحسن وتقديم المشروبات مجاناً للفقراء والعاطلين عن العمل”.
وأوضح مرضي أن “ستات الشاي سيدات مكافحات يعملن بجهد ومشقة لإعانة أسرهن، ولم يقتصر العمل في هذه المهنة على المطلقات والأرامل بل اقتحمت الفتيات أيضاً هذا المجال، رغم أن الخطوة تلاقي استنكاراً من قبل المجتمع السوداني المحافظ الذي ينظر إلى الفتاة التي تجلس في الشارع نظرة دونية. وأخيراً نافست الوافدات من دولتي إثيوبيا وإريتريا ستات الشاي السودانيات وأصبحن أكثر جذباً للشباب”.
ووفقاً للباحث الاجتماعي فإن “الاتهام بترويج المخدرات قد يكون دقيقاً في حالات محدودة باعتبار استغلال حاجة بعض النسوة إضافة إلى بيئة المنطقة لأن هناك أحياء سكنية تحوم حولها اتهامات بالترويج، لكن الغالبية منهن يسعين للكسب الحلال”.

أزمة وطنية

في سياق متصل، قال الباحث في التاريخ الاجتماعي عبدالله رزق، إن “ظاهرة ستات الشاي هي أحد مظاهر الأزمة الوطنية الشاملة التي تعانيها البلاد، لا سيما في شقها الاقتصادي، لتندفع جمهرة واسعة من النساء، في العاصمة والأقاليم إلى ارتياد سوق العمل للمساهمة في حمل بعض من عبء كلفة المعيشة المتصاعدة، لكن الكثرة من تلك الجمهرة لم تنل تأهيلاً أو تدريباً كافياً، ما جعل امتهان صناعة وتجارة الشاي خيارهن الوحيد، وكذلك بيع الطعام. وأشارت الإحصاءات التي أجريت في العقد الماضي إلى وجود الآلاف من النسوة في سوق الشاي في العاصمة والولايات، لكن الدراسات كشفت عن وجود جامعيات وبعضهن يحملن شهادات عليا بجانب خريجات الثانويات اللاتي قذفت بهن البطالة إلى هذا الميدان”. وأضاف رزق أن “ازدهار سوق الشاي يؤشر إلى الحاجة الطبيعية لتعاطي المشروبات الساخنة خارج المنازل، بالتالي إحداث زيادة ملموسة في استهلاك السكر، وربما ارتفاع فاتورة استيراده، يدل من ناحية أخرى على ارتفاع الدخول المتأتية من بيع الشاي، التي تزيد أحياناً عن دخول بعض شرائح العاملين في القطاعين العام والخاص”.

دعم وتكريم

وزاد الباحث السوداني أن “ستات الشاي حلت محل القهاوي التي أغلقت أبوابها بسبب تردي الأوضاع الاقتصادية، وفي وقت أصاب الجفاف الحياة الاجتماعية والثقافية، بدءاً من إغلاق دور السينما، وأصبح محل ستات الشاي يقوم مقام القهوة نهاراً، لأن الجلوس في الكافتيريات مع الأصحاب والأصدقاء بات مكلفاً، بسبب غلاء الخدمات، ونلاحظ ارتياد الشابات برفقة زملاء العمل أو الدراسة أمكنة شرب الشاي والقهوة التي تديرها نساء. ويقوم المحل بوظيفة النادي مساء، ولغياب المظلات في ساحات العاصمة وشوارعها وغيرها من مدن السودان، أصبح محل ست الشاي هو محطة لقاء أو انتظار، مثلما بات عنواناً لمن لا مكان له، مثل السماسرة والتجار المتهربين من الضرائب”.
وأردف أن “عديداً من ستات الشاي، في مقدمتهن حليوة، ووارغو، وحواء وغيرهن، نلن شهرة، حيث يتوافد على أمكنتهن ساسة وصحافيون ومثقفون، ولأن وراء كل ست شاي تقريباً قصة أو تراجيديا من نوع ما، عملت الصحف تحقيقات عنها. وأصبحت ستات الشاي يحظين باحترام واسع في مختلف الأوساط الاجتماعية ويجدن التعاطف في مواجهة الحملات التي تقوم بها السلطات المحلية ضدهن بين الحين والآخر، وتوثق الصحافة كفاحهن في تعليم أبنائهن، واحتفت وسائل الإعلام بالنجاح الباهر الذي أحرزته ابنة إحدى بائعات الشاي العام الماضي في الشهادة الثانوية، كما قدمت منظمة تطوعية ست شاي لقص الشريط التقليدي إيذاناً بافتتاح منشأة صحية شيدتها في مستشفى الخرطوم”.
وتابع رزق أن “ست الشاي هي رمز كفاح لا هوادة فيه ومغالبة لكل الظروف غير المواتية من أجل الكرامة والعيش اللائق، ولا أرى داعياً لتجريم ستات الشاي من دون دليل أو محاكمة الكل بجريرة واحدة أو اثنين أو البعض، بصورة عامة هن نساء شريفات يؤدين عملاً يعود بالنفع للمجتمع ولأسرهن، فمجتمع ستات الشاي لا يختلف عن أي مجتمع آخر علينا دعم ما هو إيجابي وبناء”.
وختم الباحث في التاريخ الاجتماعي بالقول “حظيت أشهر ست شاي في السودان بثناء السفير الأميركي بالخرطوم، جون غودفري الذي توقف عند قهوة أم الحسن الأكثر شهرة، التي تقع على طريق شريان الشمال الرابط بين الخرطوم والولاية الشمالية، التقى أفراد أسرتها الذين يشرفون على إدارة المقهى بعد وفاتها”.

المصدر: آخر لحظة

Exit mobile version