شغل الاضطراب السياسي، والمضاغطات الاقتصادية، الكثير من السودانيين طوال السنوات الأربع الماضيات، ولكن الذي أفزعهم وأخافهم أكثر، بلا أدنى ريب، تزايد ظاهرة انتشار تعاطي المخدرات، لا سيما وسط الشباب، مع تدفق المعلومات، والأحاديث المتداولة في معظم مجالس السودانيين عن شبكات منظمة تضم مواطنين وأجانب، تنشط في إدخال كميات كبيرة من المخدرات وتوزيعها، مثل الآيس والنيرفاكس والكبتاغون وغيرها، وحسب بعض الأطباء الاختصاصين النفسيين والصيادلة أن جُرعة واحدة منها معلومة أو مدسوسة في كوب شاي أو قهوة أو عصير، تكفي ليصبح الشخص مدمناً. وقلل بعض الأطباء النفسيين من المبالغات التي تزعم أن الآيس مخدر لا علاج له وهو قاتل في الحال، فالآيس يُعد من أخطر أنواع المخدرات، فلذلك اكتسب هذه الصفة الخطيرة، ولكنه كغيره من المخدرات الخطرة يمكن علاجه، مما يعني عدم اليأس من علاج مدمن اللآيس!
فلا غرو أن سجّل القائمون على بعض مستشفيات ومراكز علاج الإدمان وإعادة التأهيل في الخرطوم، ارتفاعاً ملحوظاً في أعداد مرتاديها من متعاطي المخدرات الراغبين في التعافي من إدمان المخدرات، في مؤشر على تفش خطير للمخدرات في السودان. ومع تزايد الانتقادات لتراخي الدولة في محاصرة الانتشار الواسع للمخدرات في الفترة الأخيرة، أعلن الفريق أول عبد الفتاح البرهان عبد الرحمن رئيس مجلس السيادة الانتقالي، إطلاق حملة قومية لمكافحة المخدرات لمدة عام، بجعل عام 2023 عام مكافحة المخدرات في السودان، قبل أن يتهم جهات ومنظمات -لم يسمّها- بالترويح لهذه الآفات “بدعم بعض المجموعات تحت لافتة ترسيخ الديمقراطية”، في إشارة إلى احتجاجات الشارع!
وفي رأيي الخاص، ينبغي أن تكون الحملة الحالية في مواجهة المخدرات شاملة ومستمرة، بحيثُ تُسهم الدولة إسهاماً فاعلاً في وضع موجهات مهمة لاتخاذ قرارات صارمة لمكافحة ظاهرة تعاطي المخدرات والترويج له والمتاجرة فيه، من بينها إعادة النظر في أعمال القضاء والنيابة والشرطة المتعلقة بمكافحة المخدرات، وذلكم من خلال إنشاء محاكم خاصة ونيابات خاصة وشرطة خاصة. وتفعيل القوانين والتشريعات المستهدفة مكافحة المخدرات. ومن الضروري في هذا الصدد، أن تكون شرطة مكافحة المخدرات فاعلة وشفافة، وتكون العقوبات رادعة، تصل إلى الإعدام، لأن المخدرات تتقاطع مع الاقتصاد والأمن والسلاح وغيرها، وتشكل مهدداً حقيقياً لأمن الدولة. ونظمت صحيفة “الانتباهة” في منبرها الاسبوعي الصحافي يوم الأربعاء 25/1/2023، ندوة محصورة الحضور حول “مكافحة المخدرات” والتي شارك فيها، عدد من المتخصصين في هذا المجال. وقد ركزتُ في ابتداري للنقاش في تلكم الندوة على ضرورة التوعية المستمرة، والمزاوجة بين المثاقفة والمعاقبة. ومن المهم، أن الطرائق التوعوية ضد المخدرات، تتشكل من ثلاث دوائر هي: الدولة (تشريعات وقوانين وحملات توعوية وعقوبات) والمجتمع (المدارس والجامعات ومراكز الشباب والأندية الاجتماعية والثقافية والرياضية والمساجد.. الخ) والأسرة (المنزل -تربيةً ومراقبةً-). ويجب تفعيل إسهام الأسرة والمجتمع في الكشف المبكر لمنع التعاطي، من باب “الوقاية خير من العلاج”. والعمل على سد النقص في المستشفيات المخصصة لعلاج المدمنيين وتأهيلهم. ومراقبة شركات الأدوية. وذلكم بالإشراف على الأدوية المقيدة Restricted Drugs، وعدم التساهل في توزيعها وبيعها إلا بروشتات من أطباء أخصائيين، ومراقبة الصيدليات التي تبيع مثل تلكم الأدوية المقيدة. ومضاعفة جهود التوعية على مستوى الأسرة والمجتمع والإعلام، وذلكم بإدخال الابداعات والمثاقفات في مجال التوعية الصحية، من دراما وموسيقى وغناء ومعارض تشكيلية وأفلام وغيرها. وتفعيل بروتوكلات التعاون الدولي في هذا الصدد، كتبادل المعلومات بين دول الجوار، لتفادي وصول المخدرات عن طريق التهريب والأساليب غير القانونية من تلك الدول أو تهريبها إليها!
ومن الضروري، أن نفكر ملياً في كيفية معالجة هده الظاهرة الخطيرة، من خلال البحث عن أساليب ناجعة غير تقليدة، لمواجهة ظاهرة تعاطي المخدرات في السودان. ففي البدء ينبغي أن تبدأ الحملات التوعوية للشباب في المدارس والجامعات والأندية الاجتماعية والرياضية، والملتقيات الشبابية ضد تدخين السجائر، فالسجائر كما هو معلوم، تحتوي على كمية من النيكوتين، والنيكوتين يؤدي إلى الإدمان! وعندما أعلن البروفسور مأمون حُميدة وزير الصحة بولاية الخرطوم الأسبق حملته ضد التدخين بدأها بسن التشريعات والقوانين، وعقد الاجتماعات الكثيفة مع أصحاب شركات صناعة السجائر ومستورديها، لاقناعهم بأهمية الإقلال من نسبة النيكوتين في السيجارة المصنعة في السودان والتي تصل إلى 1.3، بينما نسبته في العالم العربي 0.6! وواجه حملة شعواء ضده من أصحاب شركات صناعة السجائر ومستورديها ومن اللوبي الداعم لشركات صناعة السجائر، ولكنه صمد إلى أن صدر القانون من المجلس التشريعي بولاية الخرطوم آنذاك. ومن ثم اتجه إلى أساليب ناجعة ومتنوعة في الحملات الإعلامية لتوعية المواطنين بمخاطر التدخين، صحياً ونفسياً واقتصاديا واجتماعياً. وملأ البروفسور مأمون حُميدة الأماكن البارزة في مدن ولاية الخرطوم الثلاث بالإعلانات المصورة لضحايا التدخين، بصورة غير تقليدية والتي تجعل المرء عند مشاهدتها يقشعر بدنه، بالإضافة إلى إعلانات وبرامج إعلانية، وتزويد الوسائط الصحافية والإعلامية بالمعلومات والموجهات التوعوية ضد التدخين.
أخلص إلى أن تدخين السجائر والشيشة، يُعد مظهراً من مظاهر الملتقيات الاجتماعية وجلسات المؤانسات في الأندية ومراكز الشباب والأماكن الأخرى، وهذه بدورها تُهيئ للبعض الأجواء إلى تعاطي المخدرات، ومن ثم الإدمان!
ولقد أشرت في ذلكم الابتدار النقاشي في منبر صحيفة “الانتباهة”، إلى أن إطلاق الرئيس البرهان للحملة القومية لمكافحة المخدرات، جاءت متأخرة، ولكن أن تأتي متأخراً خير من ألا تأتي! فتعاطي المخدرات والترويج لها والمتاجرة فيها، خطر داهم على السودان، ولم يعد قاصراً على الشباب، بل الشباب والشيب، إلا من رحم ربي! وأصبح تعاطي المخدرات، والترويج لها، والتجارة فيها، يشكل مهدداً خطيراً من مهددات الأمن القومي السوداني. ومن المهم أيضاً، أن يُدرك القائمون على أمر هذه الحملة، ضرورة الاستعانة بالحملات واللجان التي عملت من قبل، بجد واجتهاد في هذا الخصوص. وأشرت في غير مواربة، إلى أهمية التواصل مع اللجنة القومية لمكافحة المخدرات برئاسة الدكتور الجزولي دفع الله رئيس مجلس الوزراء الأسبق، وغيرها من اللجان المحلية والإقليمية والدولية. ولنجعل بتضافر جهود الجميع، من عام 2023 عام لخلو السودان من المخدرات!
المصدر: الانتباهة