الجيش القوي والمدنيون المنقسمون.. الاتفاق الإطاري السوداني بين حلم الديمقراطية وأشباح الانقلاب
في وقت مُبكر من صباح يوم 11 إبريل/نيسان عام 2019، وبعد ساعات من إعلان الجيش تنحي الرئيس السوداني عمر البشير، وتولي نائبه وزير الدفاع الفريق “عوض بن عوف” رئاسة الفترة الانتقالية، اندفع عشرات الآلاف من المتظاهرين للحاق برفاقهم ممن اعتصموا أمام مقر القيادة العامة للجيش، رفضا لبيان الجيش بتنصيب نفسه حاكما للفترة الانتقالية. لم يكن الخطاب من وجهة نظر الثوار انتصارا للثورة، بقدر ما كان فصلا من فصول هزيمة حراكهم عبر إبقاء الحكم في أيدي العسكريين.
وفي ظل دعوات التمرد التي أطلقها “تجمع المهنيين” الذي قاد الانتفاضة، التقط قائد قوات الدعم السريع الفريق أول حميدتي طرف الخيط، واستغل الموقف كله لصالحه، فأعلن رفضه الانضمام إلى المجلس العسكري، وطالب الجيش بالاستجابة لمطالب الشعب. لكن ساعات فاصلة انتهت بصفقة في مساء ذلك اليوم، توصّلت إليها المؤسسة العسكرية مع حميدتي بتعيينه نائبا للمجلس العسكري، مع الإطاحة بالحرس القديم، وتعيين الفريق أول عبد الفتاح البرهان رئيسا للمجلس.
في أول خطاب تلفزيوني له، ظهر البرهان مرتديا بذلته العسكرية، وبدا أنه يحاول تصوير نفسه على أنه النسخة الثانية من الرئيس السوداني الأسبق المشير “عبد الرحمن سوار الذهب”، الجنرال الذي قاد انقلابا من أجل الديمقراطية عام 1985، ثم سلَّم السلطة للمدنيين وركن إلى الظل دون قطرة دم واحدة. وقد أطلق رئيس المجلس العسكري وعود التحوُّل إلى الحكم المدني الديمقراطي في مدة أقصاها عامان، لكن آمال السودانيين بالتزام البرهان ورفاقه بوعودهم سرعان ما تبددت أمام الممارسات الحقيقية على الأرض.
أظهرت أحداث الشهور التالية بوضوح تعنُّت الجيش في تقاسم السلطة الانتقالية مع المدنيين طيلة خمسة أشهر قبل توقيع اتفاق تقاسم السلطة في أغسطس/آب 2019، وهو الاتفاق الذي انهار مع انقلاب العسكريين على رئيس الوزراء السابق حمدوك في أكتوبر/تشرين الأول عام 2021. ورغم تراجع الجيش بعد ذلك وقبوله إعادة حمدوك إلى السلطة في نوفمبر/تشرين الثاني التالي مباشرة، بضغوط دولية ومحلية، لم يمكث الأخير في منصبه سوى بضعة أسابيع قبل أن يقرر الاستقالة في يناير/كانون الثاني 2022، بعد فشل مساعيه في الوصول إلى “توافق سياسي يجنب البلاد الانزلاق نحو الفوضى وعدم الاستقرار”، بحسب وصفه.
فتحت استقالة حمدوك الطريق أمام عام من الاحتجاجات المشتعلة في البلاد، لكنه انتهى مع بارقة أمل خافتة إثر توقيع الاتفاق الإطاري بين الجيش وبعض القوى المدنية في 5 ديسمبر/كانون الأول الماضي. وينص الاتفاق على مرحلة انتقالية جديدة تمتد لعامين تنتهي بتسليم السلطة للمدنيين، لكنَّ المعارضين للاتفاق يرون أنه لم يوفر ضمانات ألا يتنكر العسكريون له كما فعلوا مع وثيقة تسليم السلطة لعام 2019، لا سيما أن السودان بلد له تاريخ طويل مع الانقلابات العسكرية والحكم السلطوي.
مطامع السياسة
لم يفِ جنرالات الجيش السوداني بمعظم وعودهم التي أطلقوها منذ الإطاحة بالبشير، بل إنهم رفضوا صراحة الشراكة مع المدنيين، وشكَّلوا مجلسا عسكريا انتقاليا لإدارة شؤون البلد بدون تمثيل مدني، ولم يقبل الجيش بمشاركة المدنيين في المجلس السيادي لاحقا إلا تحت الضغوط الدولية، ومع اقتراب أمد تسليم رئاسة المجلس من العسكريين إلى المدنيين سرعان ما انقلب الجيش على الاتفاق، وأدخل البلد في مرحلة طويلة من الفوضى وانعدام اليقين.
في ظل هذه الخلفية، يأتي الاتفاق الأخير الذي يُفترض أن يطوي نظريا صفحة الخصومة السياسية بعد انسداد لأكثر من عام، حيث نصَّ الاتفاق الإطاري على بدء فترة انتقالية مدتها عامان، تبدأ من تعيين رئيس للوزراء تختاره قوى الثورة، وتنتهي بإجراء انتخابات شاملة. وعليه تتكوَّن السلطة الانتقالية من مجلس تشريعي انتقالي ومجلس سيادي انتقالي ومجلس وزراء انتقالي. ونصَّ الاتفاق على دمج قوات الدعم السريع في الجيش، وتجريم الانقلابات وكل تغيير سياسي خارج الأُطر الدستورية، وإبعاد الجيش عن أي عمل سياسي، ما يعني قبول الجيش -نظريا- بالواقع الجديد الذي فُرض عليه، والموافقة على أي سُلطة مدنية قادمة، والسماح للرئيس المدني القادم بممارسة سُلطاته بما في ذلك شؤون الجيش، وهو بند اعتبره معارضون خطوة تكتيكية قَبِل بها البرهان على مضض لإكمال المسار السياسي.
تكمن معضلة دور الجيش في السياسة السودانية في أن العسكريين كانوا دوما المحرك الرئيس للتحولات السياسية التي شهدها السودان على مدار تاريخه الحديث منذ استقلاله عام 1956، فعلى مدار 66 عاما حكم الجيش البلاد نحو 55 عاما، مقابل سبع سنوات فقط من الحُكم المدني، فيما بلغ عدد المحاولات الانقلابية في السودان 17 محاولة كان النجاح حليف ثلاث محاولات منها (النميري ثم عبود ثم البشير). وقد دفعت هيمنة العسكر على السلطة إلى ترسيخ وصاية الجيش على البلاد، كما جاء على لسان البرهان نصا، وهو ما دفع الجيش إلى رفض الشراكة مع المدنيين أكثر من مرة منذ عام 2019. (1)
بالإضافة إلى ذلك، تعترض عوائق عملية مهمة محاولات تأسيس شراكة فعلية بين العسكريين والمدنيين، على رأسها مخاوف الجيش بشأن إمبراطوريته الاقتصادية التي ربح بها معركة النفوذ والهيمنة على الحياة السياسية طيلة عقود. وتؤدي الشركات المملوكة للجيش وعددها نحو 250 شركة أدوارا حيوية في مجالات الذهب والمطاط وصادرات اللحوم والدقيق والسمسم، وهي الشريان الرئيسي في معظم قطاعات الاقتصاد، وتُدر أرباحا بمليارات الدولارات، ولا تخضع للرقابة، كما أنها معفية من الضرائب، مقابل 650 شركة حكومية سبق وخططت الحكومة لخصخصة عدد كبير منها وبيعها، كونها لا تحقق أرباحا كافية. وإلى جانب شركات الجيش، تحظى قوات الدعم السريع باستقلالية مالية عن الحكومة عبر احتكارها قطاع التعدين (الذهب)، ما يجعل “حميدتي” رسميا أكبر تاجر ذهب في السودان، وصاحب الكلمة العليا في هذه السوق. ويشير تحقيق أجرته شبكة “سي إن إن” (CNN) الإخبارية الأميركية إلى أن أكثر من 220 طنا، أو ما يعادل 13.4 مليار دولار، من الذهب تُنهب سنويا من السودان.
لذلك، كان إخضاع الشركات العسكرية لسلطة المدنيين على رأس أولويات رئيس الوزراء المستقيل عبد الله حمدوك الذي رأى في تلك الخُطوة نافذة لحل لمشكلات بلاده المستعصية على الحل وأبرزها الاقتصاد المتهالك، كما اعتبرها الرجل فعليا مصدرا رئيسا للشرعية والنفوذ، وسلاحا يجب نزعه لصدِّ أي انقلاب وشيك. وقد ظهر التوظيف السياسي لتلك الورقة حين أعلن حمدوك ضرورة خفض الإنفاق العسكري الذي يستهلك نحو 80% من الموازنة، ثم إعلانه أن 82% من المال العام خارج سيطرة وزارة المالية، وأنه لا بد من استعادة شركات القطاع الأمني والعسكري ودمجها ضمن مؤسسات الدولة.
يُمثِّل مصير شركات الجيش هاجسا لدى المؤسسة العسكرية، وهي من الملفات الحساسة التي فشلت الحكومة الانتقالية السابقة في التعامل معها. ويرى الجيش أن تنازله في ظل حكومة مدنية عن إمبراطوريته الاقتصادية يعني ضمنيا تخليه عن دوره المُهيمن في البلاد، كما أن تشكيل برلمان من ضمن مهامه المُعلنة والمتوقعة إخضاع تلك الشركات للرقابة الحكومية المباشرة من شأنه أن يُحرِج القادة العسكريين أمام الرأي العام، وخاصة في ظل شبهات واتهامات بالفساد. كما يخشى القادة من تعرُّضهم للمحاكمة عن الجرائم التي ارتُكبت في الميادين ضد المعارضة خلال فترة حكمهم، ولذا تبدو مصالح الجيش متضاربة مع الحكم المدني تضاربا شديدا، ما لم يصل الطرفان إلى تسوية تحتوي بعض مطالب القادة العسكريين.
تجدر الإشارة إلى أن الحراك السوداني الذي أطاح بحكم البشير ربما لم يكُن لينجح من الأساس دون تحرُّك “الفيل الضخم”، وهو وصف يُستخدم دوما كناية عن الجيش السوداني، وهي حقيقة التقطها قادة الاحتجاجات أنفسهم بعد مرور أربعة أشهر على حراكهم دون جدوى، فقرروا الاعتصام أمام مقر القيادة العامة للجيش، بوصفه الجهة الوحيدة التي تمتلك فعليا أدوات حسم الموقف. وحين تحقق لهم ما أرادوا، خرجوا بالهتافات المطالبة بخروج الجيش من الحياة السياسية والعودة إلى حُكم مدني، وهو المطلب الذي يُمثِّل التحدي الأكبر في السودان في مرحلة ما بعد البشير.
المناورة الأخيرة
يبدو الجيش السوداني واقعيا إمبراطورية قوية في بلد ضعيف، لكنه رغم ذلك يجد أن توحيد الصفوف يُمثِّل خطرا مصيريا عليه، لذا دأبت المؤسسة العسكرية على شق صفوف القوى المدنية، وترسيخ الاعتقاد بأن كل تحركاتها في الشأن السوداني إنما جاءت تلبية لفصيل مدني دعاها للتدخل، وهي وصفة قديمة سبق واتبعها كل قادة الانقلابات بدءا من انقلاب الرئيس السوداني “إبراهيم عبود” عام 1958، مرورا بانقلاب البشير الذي صُبغ بصبغة إسلامية عام 1989، نهاية بعزل الجيش له عام 2019. ورغم أن المؤسسة العسكرية أعلنت ولاءها للنظام طيلة أيام الثورة، لكن توافق القوى السياسية على إسقاط البشير، وانخراطها منذ عام 2018 في تحالف واسع تحت اسم قوى إعلان الحرية والتغيير، دفع الجيش في النهاية إلى التخلي عن البشير دفاعا عن مصالحه.
بدأت أولى أزمات الجيش عقب ساعات من تنحية البشير، إذ واجهت المؤسسة العسكرية ضغوطا دولية لتسليم السلطة لقيادة مدنية، في وقت كان يريد فيه الجيش الاستئثار بالسلطة، وأن تكون الأغلبية للعسكريين داخل المجلس السيادي. وأمام تمسك الثوار بمطالبهم، استعان الجيش بقوات الدعم السريع لفض اعتصام القيادة العامة بالقوة بعد 45 يوما من إسقاط النظام، أملا في القضاء على الحراك.
بمرور الوقت، بدا واضحا أن بطش الجيش ليس سلاحه الوحيد في مواجهة الحراك، وأن التصدعات ضربت بالفعل صفوف قوى الحرية والتغيير التي انقسمت فيما بينها بخصوص سياسات وهياكل الفترة الانتقالية، وهي تصدعات اتُّهِم الجيش بتغذيتها. شملت هذه الانشقاقات حزب الأمة الذي جمَّد نشاطه ضمن قوى التغيير، قبل أن يعود مرة أخرى، بخلاف انسحاب الحزب الشيوعي من التحالف، وما تبعه من انسحاب تجمُّع المهنيين السودانيين. وزاد الأمر تعقيدا حين أقدمت لجنة فنية تُمثِّل الكيانات المتبقية المُكوِّنة للحرية والتغيير على سحب الثقة من المجلس المركزي، وطالبت باستبدال أعضاء المكوِّن المدني في مجلس السيادة، وقد شكَّلت بعدئذ كُتلتها الخاصة المعروفة بالكُتلة الديمقراطية.
هدَّدت انشقاقات قوى الحرية والتغيير المرحلة الانتقالية، وأضعفت موقف حمدوك أمام الجيش. والمفارقة أن شهر أكتوبر/تشرين الأول 2021، الذي شهد أكبر انقسامات القوى المدنية، كان نفسه الشهر الذي انقلب فيه البرهان على حمدوك، حين كان الأخير بلا حاضنة سياسية قوية تحميه. وعقب عودة حمدوك التي جاءت باتفاق سياسي مع البرهان، كانت القوى المدنية قد ازدادت انقساما وغضبا، حتى إن تجمُّع المهنيين وقوى الحرية والعدالة (وهما على خلاف تام حينئذ)، وصفا الاتفاق وكل مَن أيَّده أو شارك فيه بالخيانة، لأن الاتفاق لم يكن بين الجهات الفاعلة العسكرية والمدنية، بل بين البرهان وحمدوك فقط.
لم يكن غريبا إذن أن استقال حمدوك بعد فترة وجيزة من عودته، فلا هو استطاع أن يدير أزمات بلاده، ولا نجح في انتزاع تنازلات من العسكريين، كما فشل أيضا في توحيد الصف المدني. بيد أن المكسب الوحيد الذي تحقق لم يكن هيِّنا على كل حال، حيث مهدت هذه الفوضى الطريق إلى الاتفاق الأخير وتعهد الجيش بتسليم السلطة نظريا مع ضغوط الشارع ضد انقلاب البرهان.
الجزيرة نت