منوعات

من “توكسيك” إلى “ذوي الهمم”.. هل يؤثر تغيير المصطلحات حقا على التواصل بين البشر؟

تغيير معنى كلمة، أو إلغاء وصف شيء وإعطاؤه وصفا جديدا، أو حتى إدخال كلمات جديدة في لغتنا لا ندرك معناها الحقيقي إدراكا واعيا، ربما يؤثر أكثر مما نظن على التواصل بيننا. إذا ألقينا نظرة سريعة على تاريخ اللغة فإننا قد نجد أمثلة مهمة لتلك التغيرات الدلالية في الكلمات التي تُعَدُّ بمنزلة تحذير أو لفت نظر لما قد يحدث في المستقبل.

 

أحد الأمثلة المتطرفة على ذلك هو استخدام البشر الآن لكلمة “حب أفلاطوني” بمعنى الحب البريء الخالي من عشق الجسد بين الرجل والمرأة، في حين أن المعنى الحقيقي لهذه الكلمة الذي أُسست عليه كان مرتبطا بالمثلية الجنسية، فالفيلسوف اليوناني أفلاطون كان يرى أنه قد تكون هناك علاقة حب بين الرجال، وأنه لا يجب أن تكون هناك علاقة جسدية بين الرجل والمرأة إلا للتكاثر، ولكن مع مرور الوقت تحوَّل معنى الحب الأفلاطوني في أذهان الناس إلى وصف “علاقة حب بريئة” بين رجل وامرأة.

 

هناك أسباب كثيرة لحدوث التغيير الدلالي للكلمات، مثل الضغط السياسي، وهو ما يندرج تحته كل الكلمات التي تغيرت في إطار الصوابية السياسية، أو الاستعمار، أو ربما تطور التقنيات الحديثة التي تفرض على اللغة أن تُطوِّر من نفسها أيضا (1). فهل ما يحدث الآن من تغيرات دلالية في بعض الكلمات، أو انفتاح ثقافي على لغات أخرى وتبني بعض كلماتها دون فهم عميق لمعناها قد يكون له تأثير سلبي في التواصل بين البشر أو بين الأجيال المختلفة؟

هل يحتاج “ذوو الهمم” إلى مساعدتنا؟

حسنا، دعونا نبدأ من مشهد معتاد للكثيرين. إذا دخلت إلى أي مصلحة حكومية في مصر في وقتنا الحالي فستجد نافذة مخصصة بلافتة واضحة “لذوي الهمم”، هذا التعبير الذي تستخدمه مصر حديثا في إطار الصوابية السياسية بهدف تقليل التنمُّر الذي يتعرض له أولئك الذين يعانون من أي إعاقة جسدية أو ذهنية، وهو تعبير ينتشر في الكثير من الدول العربية أيضا.

 

فيما سبق كان يُطلق على هؤلاء في اللغة لفظ “معاقين”، ثم “ذوي الاحتياجات الخاصة”، ومؤخرا “ذوي الهمم”، فإذا كان هناك ثلاثة أجيال سيدخلون تلك المصلحة الحكومية، فكل جيل منهم لديه مفهوم وإطار ثقافي مختلف عن الشخص الذي يعاني من “إعاقة” تجعله مختلفا عن الآخرين.

 

وبعيدا عن أزمة التواصل بين الأجيال، فالسؤال المهم هنا: ما المردود الذهني والإدراكي الجديد المترتب على تغير تلك الكلمة في أذهان الأجيال الجديدة؟ فعندما تطلق على شخص أنه “ذو احتياج خاص” فهذا لا يدع مجالا للشك أو التردد من الأطراف الآخرين لتقديم المساعدة، ولكن كلمة “ذوي الهمم”، رغم أن لها وقعا نفسيا أفضل، فإنها ربما تمنح سامعها إحساسا أن هذا الشخص ليس في حاجة إلى المساعدة.

 

المثال الأبرز على أزمة التواصل والدلالات تلك رصدته دراسة علمية (2) نُشرت للمرة الأولى عام 1915 في مجلة “لانسيت” الطبية العريقة، وأُعيد نشرها والتعليق عليها عام 2015 بواسطة قسم الأمراض النفسية في جامعة كامبريدج تحت عنوان “One Hundred Years Ago: Shell Shock”. وقد عنت الدراسة الأصلية بتتبع المرض النفسي الذي يصيب الجنود في الحروب، ووصف خلالها عالم النفس البريطاني تشارلز صموئيل مايرز الحالة النفسية التي تُصيب الجندي بعد صدمة الحرب، وأطلق على هذا المرض “Shell shock” أو “ارتجاج الدماغ”، وقال إنه يجعل الجندي في حالة دائمة من الذعر وعدم القدرة على النوم أو الحركة بشكل مناسب، كما تُصيبه حالة من التحديق والذهول معظم الوقت.

وقتها، استُخدم هذا المرض واسمه اللاذع في الدعاية ضد الحروب، ومع الوقت ظهر اسم “اضطراب ما بعد الصدمة” لهذا المرض، الذي يبدو وقعه على الأذن والنفس أخف وطأة، حيث إن المصطلح يوحي بأن الصدمة قد مرت وليس لها وجود الآن في نفس الجندي المُحارب، بينما ما يظهر عليه ليس سوى “اضطراب” ما بعد تلك الصدمة، وهو أمر غير صحيح، حيث أوضح التعليق الحديث على الدراسة أن استيعاب المجتمعات للضرر الذي يتعرض له الجنود أصبح أقل بعد تغيير وصفه.

المصدر: الجزيرة نت

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى