الخرطوم- لا يجد آلاف المعلمين في السودان خيارا سوى الدخول في إضراب عن العمل لإجبار السلطة الحاكمة على تحسين رواتبهم التي يقولون إنها لم تعد تكفي أبسط الاحتياجات المعيشية.
فمنذ منتصف أكتوبر/تشرين الأول الماضي شرع معلمو المدارس الحكومية بأنحاء البلاد في تحركات منظمة بدأت بتسليم السلطات، ممثلة في وزارة المالية ووزارة التربية والتعليم ومجلس الوزراء، مذكرة متضمنة 8 مطالب تصدرتها ضرورة زيادة الإنفاق على التعليم ليصل إلى 20% من ميزانية الدولة.
ويطالب المعلمون برفع مخصصات التعليم كمدخل لحل مشكلات تتعلق بأجورهم المتدنية وكي تتمكن المدارس من استقبال عدد كبير من الطلبة الذين لا يجدون مقاعد للدراسة، وبلغ عددهم حسب تقرير منظمة الأمم المتحدة لرعاية الطفولة (يونيسف) 7 ملايين طفل.
كما تضمنت المطالب رفع الحد الأدنى للأجور إلى 69 ألف جنيه سوداني (121 دولارا تقريبا)، إضافة إلى مطالب أخرى تتعلق بحقوق المعلمين.
وتأسس مطلب رفع الأجور على دراسة عن تكلفة المعيشة لأسرة مكونة من 5 أفراد أصدرها المكتب الاجتماعي للجنة المعلمين السودانيين في سبتمبر/أيلول الماضي، خلصت إلى أن الأسرة تحتاج شهريا 579 ألف جنيه، أي ما يعادل ألف دولار، لمواجهة أساسيات المعيشة (الدولار=570 جنيها سودانيا تقريبا).
وبعد نشر هذه الدراسة، وضعت لجنة المعلمين تصورها للحد الأدنى لأجر المعلم بواقع 69 ألف جنيه بدلا من 12 ألف جنيه الحالية (21 دولارا). والتف حول هذا المطلب المعلمون في كل أنحاء السودان، مطالبين السلطات بالتجاوب معهم قبل إشهار سلاح الإضراب الذي بدأ تدريجيا بالتوقف عن العمل ليوم ثم تمدد ليومين، على أن يكون خلال الأسبوع الحالي 3 أيام تبدأ الثلاثاء حتى الخميس، في أطول إضراب للمعلمين منذ بدء الأزمة.
وتقول معلمة بإحدى المدارس في جنوب الخرطوم -للجزيرة نت- إن راتبها لا يغطي سوى 12% من الاحتياجات إن لم تتعرض الأسرة لطارئ صحي يستوجب العلاج، فوقتئذ يمكن أن يتلاشى الراتب بالكامل في يوم واحد.
ومع ذلك، لا تبدو هذه المعلمة متحمسة للإضراب لتأثيره السلبي على التقويم الدراسي وإقحام الطلاب في مشكلات لا تخصهم كما تقول، وتحدثت عن توقف جزئي ينفذه زملاؤها من وقت لآخر تجاوبا مع دعوات لجنة المعلمين، بينما يرفض عدد قليل الخطوة لكنهم يضطرون إلى التوقف عن العمل.
هجران التعليم إلى التعدين
ويؤكد رئيس لجنة المعلمين بولاية جنوب دارفور، هاشم عبد الله زكريا، التزامهم بالإضراب لـ3 أيام إلى حين التعاطي الإيجابي مع مطلب رفع الأجور. وقال إن الراتب لا يكفي سوى قدر يسير جدا من المصروفات المتضخمة بفعل الأوضاع الاقتصادية المتأزمة.
وبعد نحو 17 عاما من التدريس، يتقاضى هاشم 71 ألف جنيه (125 دولارا) تتضمن بدلات وعلاوات واستحقاقه كعائل لـ3 أطفال. ويشير -في حديث للجزيرة نت- إلى أن أجره الشهري يتغير باستمرار ولا يتمكن المعلمون في ولايته من التعرف على تفاصيل رواتبهم والاستقطاعات منها وكيفية حساب جملة الأجر.
ويرى هاشم أن تطبيق الأجور فيه اختلافات كبيرة بين الولايات، مبينا أن المعلم في الدرجة الأولى بالخرطوم يتقاضى 39 ألفا بينما فى جنوب دارفور يتقاضى 24 ألف جنيه، وهو ما يدعوهم للمطالبة بأن تكون وظائف التعليم مركزية، أي تتبع مباشرة للمركز ويكون التعامل مع الجميع بسقف واحد.
وقال إن الأوضاع الصعبة جعلت المعلمين في إحدى المحليات بجنوب دارفور يهجرون المدرسة بالكامل وقد قصدوا العمل في مواقع التعدين، وتم تسليم مفاتيح المدرسة إلى الوكيل. كذلك طلب أكثر من 200 معلم إجازة من دون راتب لتأمين مصروفاتهم بالبحث عن عمل آخر.
تصعيد مرتقب
وفي ولاية كسلا بشرق البلاد، يقول الطاهر باشري أحد المعلمين المضربين -للجزيرة نت- إن التجاوب مع الإضراب بلغ 98%، بل مددت العديد من المناطق الأسبوع الماضي الإضراب إلى 3 أيام بدلا من يومين، مؤكدا أن الخطوة المقبلة تشمل تصعيدا واسعا قد يصل إلى التوقف الكامل ما لم تتدخل الدولة لتحسين الأجور.
ويتقاضى المعلم، وفقا لباشري، 22 ألف جنيه راتبا أساسيا وهو مبعث الاعتراض الكبير رغم التحسينات التي تلحق به بإضافة العلاوات والبدلات، لكن عند الإحالة إلى المعاش -كما يقول- يتم الصرف وفقا للراتب الأساسي وهو ما ترفضه جموع المعلمين وتطالب برفع الحد الأدنى إلى 69 ألف جنيه.
ويلفت إلى أن استئجار منزل صغير جدا يكلف ما لا يقل عن 150 ألف جنيه (250 دولارا) وهو ما لا يمكن معه القبول بالأجور الحالية، حيث يبلغ الراتب الأساسي لمعلمي الدرجة الأولى نحو 22 ألف جنيه مقابل 13 ألف جنيه للدرجات الثالثة والرابعة تضاف إليها البدلات والعلاوات، متسائلا: كيف يمكنني في هذه الحالة الإيفاء بقيمة إيجار المنزل فضلا عن المتطلبات الحياتية الأخرى؟
تجاوب غير رسمي
وكان وزير التربية والتعليم محمد الحوري تحدث الأسبوع الماضي عن أن زيادة الرواتب أصبحت واقعًا بنسبة 70% على طبيعة عمل و50% علاوة معلم، إضافة إلى 40% للعاملين بحقل التعليم. لكن المعلمين رفضوا التجاوب مع هذه الخطوة ونظمت احتجاجات واسعة ضدها بلغت حد المطالبة بإقالة الوزير.
وحسب عضو المكتب التنفيذي للجنة المعلمين السودانيين سامي الباقر، فإن اجتماعا التأم السبت أقرّ الإغلاق التام للمدارس بدءا من الثلاثاء. وأفاد للجزيرة نت بأن نحو 20 ألف مدرسة في جميع البلاد ستغلق أبوابها تجاوبا مع دعوات الإضراب، على أن يُعقد لاحقا اجتماع موسع لكل الولايات للتشاور حول الخطوة القادمة بحال عدم استجابة السلطات لمطالب المعلمين.
وكشف الباقر عن اتصالات غير رسمية مع وزارة المالية جرى خلالها توضيح المطالب تفصيليا، وقال إن المسؤولين أظهروا تفهما ووعدوا بالترتيب لاجتماع موسع يضم المعلمين والإدارات ذات الصلة.
اليونيسيف على الخط
وكانت منظمة الأمم المتحدة لرعاية الطفولة (يونيسيف) عبرت عن قلقها البالغ إزاء ما قالت إنه إغلاق وشيك للمدارس في السودان بسبب إضراب المعلمين.
وقال المنظمة الدولية على صفحتها بتويتر إن إضراب المدارس يحدث اضطرابا في التعليم، ودعت جميع أصحاب المصلحة المشاركين في المفاوضات بشأن رواتب العاملين في التعليم إلى منح الأسبقية لمصالح التلاميذ.
وردّت لجنة المعلمين على تصريحات اليونيسيف بالتأكيد أن السلطات تجاهلت مطالبها على مدى أسابيع وأنها لم تلجأ إلى الإضراب إلا بعد 3 أسابيع من رفع المطالب.
وأضافت اللجنة في بيان صحفي “ندرك الوضع الخطير الذي تمر به العملية التعليمية والمعلم بصورة أخص، ولكن عدم رغبة الطرف الحكومي في تحسين وضع التعليم والمعلم هو ما جعلنا نلجأ إلى هذا الخيار القاسي والصعب؛ لقناعتنا التامة بأن نهضة السودان مدخلها هو إصلاح التعليم وقيام الحكومة بمسؤولياتها تجاهه”.
ويقرّ سامي الباقر بالمردود السلبي للإضراب على التقويم الدراسي، لكنه يرى أن تنفيذ المطالب ضروري لتعديل العملية التعليمية ووضعها في مسارها الصحيح.
كما يشير هاشم زكريا إلى الأثر البالغ الذي يخلفه الإضراب على المدارس في جنوب دارفور، والذي فاقمه أيضا إصدار الحكومة المحلية قرارا بإغلاق المدارس إلى أجل غير مسمى في أعقاب احتجاجات طلابية.
كذلك تأخرت العديد من المدارس المحلية عن التقويم الدراسي أكثر من شهر، في ظل وجود أزمات أخرى -وفقا لهاشم- تواجه العام الدراسي منها نقص المعلمين وبؤس البيئة الدراسية.
الجزيرة نت