صورة لم تعد لافتة في ما يشبه التعايش مع واقع مشوه للطفولة، بحيث باتت مألوفة مشاهدة عشرات الأطفال وسط العاصمة الخرطوم وهم يعملون حمالين في الأسواق وفي غسل العربات وتجارة (الأتوستوب) عند تقاطعات المرور في أحد المظاهر العلنية لعمالة الأطفال بالسودان، لكن الواقع الأخطر غير المرئي والأكثر مرارة هم أطفال الذهب الموجودون في مناطق التنقيب والتعدين النائية في شمال البلاد وغربها وغرب، حيث الأخطار فادحة والمعاناة أضعاف مضاعفة.
دوائر الفقر
تشكل قضية عمالة الأطفال في السودان هاجساً على المستويين الحكومي والمجتمعي وكذلك بالنسبة إلى المنظمات الوطنية ذات الصلة مع زيادة أعداد الأطفال أقل من 18 سنة الذين يعملون في مناطق التعدين في ظروف صعبة يتعرضون خلالها لكل أنواع المضايقات والاستغلال والقهر النفسي والبدني، وفي كل الأحوال يقف الفقر والعوز والجهل على رأس قائمة المتهمين وراء تفشي عمالة الأطفال بصفة عامة، وفي مجال التعدين خصوصاً.
يقول المحامي والناشط الحقوقي أيمن صالح من مدينة حلفا بأقصى شمال السودان إن أعداداً كبيرة جداً من الأطفال دون عمر الـ18 سنة يعملون في مجال التعدين والتنقيب عن الذهب، مشيراً إلى أنه من واقع تقديرات جولات الطواف الميداني في محلية حلفا، تكاد نسبة هذه الشريحة تشكل ما لا يقل عن 40 في المئة من العمالة في مواقع التعدين مع غياب إحصاءات رسمية لعدم اهتمام الدولة بهذا الأمر.
ويضيف “هناك أيضاً عدد كبير من الأطفال دون عمر الـ12 و15 سنة هجروا مدارسهم وتحولوا إلى العمل في مجال التنقيب بغرض تحسين ظروف أسرهم المعيشية، ويلاحظ أن غالبية من العمال صغار السن وافدين من مناطق النزاعات سواء في دارفور أو النيل الأزرق وغيرها من المناطق الملتهبة الأخرى، مما يجعلهم معرضين بشدة للاستغلال والإصابة بالأمراض السرطانية المنتشرة في قطاع التعدين.
مع الإقرار بهذا الواقع المؤلم، يرى الناشط الحقوقي ضرورة اتخاذ إجراءات تحوطية في الأقل من باب الوقاية وذلك بتشديد الاشتراطات والضوابط الصحية والقانونية لتكون ملزمة للعاملين في مناطق التعدين، فربما تساعد في الأقل على تقليل الإصابة بأمراض عدة ناتجة من التعامل مع المواد الخطرة المستخدمة في هذا المجال عبر إلزام العاملين في أحواض (غسيل الذهب) لبس قفازات واقية من المياه والزئبق في الأيدي إضافة إلى الكمامات ومنع حرق الذهب وفصله من الزئبق بواسطة الفحم النباتي في الأماكن المفتوحة وإلزام الصائغين صهره داخل أفران كهربائية.
ويطالب صالح بضرورة تحديث وإصلاح بيئة التعدين التقليدي من خلال بناء عقارات ثابتة في الأسواق على شكل مجمعات بدلاً من الأسواق الحالية المشيدة بطرق بدائية وعشوائية ليسهل لعمال النظافة القيام بواجباتهم، كما طرح الناشط الحقوقي إلغاء ومنع التعدين الأهلي لحين تقنينه بما يتوافق مع خطط مستقبلية آمنة تدعم اقتصاد البلاد وتنميتها.
اللائحة الأسوأ
في السياق ذاته أكدت مسؤولة الحماية في الجلس القومي للطفولة نجاة الأسد إجازة المجلس لائحة “أسوأ أشكال عمالة الأطفال”، فضلاً عن نصوص “قانون الطفل” عام 2010 الذي يحظر الأعمال الخطرة على الأطفال وأيضاً “قانون العمل”، كما أن هناك دراسات عدة تمت في خصوص الأطفال المعدنين في كل من جامعات “دنقلا” (عاصمة الولاية الشمالية) و”القضارف” و”وادي النيل”، لكن لم تخرج نتائج تلك الدراسات حتى الآن بصورة رسمية.
تشير الأسد إلى أن المشكلة ليست في اللائحة ولا القوانين، إذ تظل عمالة الأطفال مشكلة مرتبطة بالوضع الاقتصادي والسياسي والاجتماعي في البلاد والتحديات التي تواجه الأسر، فضلاً عن النزاعات المتكررة في ولايات دارفور وكردفان والنيل الأزرق، حيث تبقى المفاضلة بين أن يتعلم الطفل أو يخرج إلى سوق العمل بسبب ارتفاع معدلات الفقر وعجز معالجات مكافحته عن انتشال الأسر من تأثيراته ووطأته، إلى جانب أن متطلبات الأطفال في التعليم والصحة والعيش الكريم أصبحت بعيدة من متناول الأسر.
وتنوه إلى أن الواقع الاقتصادي لا يبرر أو يعطي بأية حال مشروعية لعمل الأطفال في مجالات التنقيب والتعدين وغيرها من الأعمال الخطرة الأخرى التي تهدد حياتهم وتبعدهم عن مقاعد الدراسة، لكن لا بد من معالجات جذرية للفقر والعنف الأسري والنزاعات والكوارث الطبيعية.
وكشفت الأسد عن اعتزام المجلس إجراء دراسة حول قضية عمالة الأطفال في مجال التعدين خلال العام المقبل لقياس مدى أثرها على صحتهم الجسدية والنفسية، إذ تم رفع موازنة الدراسة لوزارة المالية بغرض توفير التمويل اللازم لتنفيذها ومن المنتظر أن تشكل نتائجها برنامج عمل وخريطة طريق لكثير من المعالجات في هذا الخصوص.
على رغم حظر وزارة المعادن منذ عام 2015 عمالة الأطفال في مجالات التنقيب واستخراج الذهب بتضمين شروط منح التصديق للتعدين التقليدي شرط ألا يقل عمر العامل سوداني الجنسية عن 18 سنة، بعد ورود شكاوى من جذب التعدين الأهلي كثيراً من الأطفال والتلاميذ، لكن الواقع الماثل لا يزال يؤكد الاستمرار الكثيف لعمالة الأطفال في هذا النشاط.
الأسد أوضحت أنه “لم تصدر حتى الآن عقوبات ضد أية شركة تعمل في التعدين ولديها عمال من الأطفال، لكن صدر توجيه من وزارة المعادن وشركاتها بأن يخصص جزء من مواردها للارتقاء بالأوضاع الاقتصادية للناس، بالتالي يستطيع الأطفال التخلي عن العمل في التعدين ومواصلة مسيرتهم التعليمية، فبالتعليم تنكسر دائرة الفقر عموماً وفقر الأطفال على وجه التحديد”.
من أجل الذهب
كشفت دراسة للباحث الأكاديمي المعز أبكر أحمد من جامعة شندي بولاية نهر النيل حول الآثار الاجتماعية والاقتصادية للتنقيب التقليدي عن الذهب، عن أن سرعة انتشار التعدين التقليدي الفائقة أدت إلى ظهور كثير من المشكلات، على رأسها عمالة الأطفال والتهريب، فضلاً عن المعضلات الصحية والبيئية التي تؤثر في مختلف جوانب الحياة، سواء في أوساط العمال أنفسهم أو في مستوى المجتمعات المحلية.
وعلى رغم توقيع السودان اتفاق “حقوق الأطفال” عام 1990 وصدور “قانون الطفل” عام 2010 وتعديلاته اللاحقة في 2020، فإن إحصاءات حكومية في السنوات الماضية كشفت عن ارتفاع معدلات عمالة الأطفال، بخاصة في إقليم دارفور بنسبة 45 في المئة وكردفان بنسبة 35 في المئة، بينما يعمل طفل من أصل كل 10 أطفال في الخرطوم.
ارتبطت ظاهرة عمل الأطفال في مجال التنقيب عن الذهب أيضاً بظاهرة التسرب المدرسي، إما بشكل طوعي من الطفل نفسه لشعوره بضرورة تقديم شيء لإعالة أسرته، أو قسراً كأن تجبره الأسرة على الإسهام في المصاريف اليومية للبيت.
دراسات سابقة للمجلس القومي لرعاية الطفولة أشارت إلى أن نسبة الأطفال الذين أكملوا الدراسة الابتدائية في ولاية الخرطوم بلغت 72 في المئة فقط، وفي ولاية كسلا 64 في المئة. وذكرت أن نسبة 34 في المئة تركوا التعليم بسبب فشلهم في سداد المصاريف المطلوبة، بينما بلغت نسبة الأطفال العاملين في الأسواق والشوارع حوالى 75 في المئة، يتعرض 25 في المئة منهم لدرجات الحرارة المرتفعة وأشعة الشمس الحارقة.
ثمة علاقة وثيقة بين عمل الأطفال في التعدين والوضع الاقتصادي للأسرة، فكلما زادت نسبة فقر الأسر ارتفعت نسب عمل أبنائها الأقل من 18 سنة الذين ينضمون إلى أعمال تنطوي على كثير من الأخطار والمصاعب.
جحيم الفتيات
بحسب دراسة للأكاديمي المعز، تشارك الفتيات في المهمات المتصلة بمراحل الاستخراج والنقل والتجهيز في عملية التعدين وكذلك في وظائف أخرى ذات صلة مثل بيع المواد الغذائية والمؤن لعمال المناجم، وكثيراً ما تعمل الفتيات في بيئة يسودها الاعتداء الجسدي الناتج من استهلاك الكحول من قبل العمال وضعف الفتيات على وجه الخصوص.
تتسم جميع الأنشطة المتصلة بالتعدين على نطاق صغير بالخطر، لا سيما تلك الأنشطة التي تجري في منطقة الحفر وحولها، كما تتعرض الفتيات في مجال التعدين للعمل ساعات طويلة واستنشاق الغبار الناعم والمواد السامة من دون أية معدات واقية، فضلاً عن الأخطار العالية والجهد البدني الشديد.
وتعتبر الدراسة أن عمالة الأطفال شائعة في مجتمعات التعدين عن الذهب الحرفي والضيق النطاق ويقوم هؤلاء بأنشطة شاقة من قبيل الرفع والحرق وحمل الخام ونقله، كما يتعامل الأطفال أيضاً مع الزئبق بشكل مباشر.
وأشارت نتائج الدراسة بحسب إندبندنت إلى أنه على رغم إسهام التعدين التقليدي للذهب في تحسين الأوضاع المعيشية للمجتمع المحلي عبر زيادة مداخيلهم، فإنه أدى في الوقت ذاته إلى تفشي ظاهرتي عمالة الأطفال وتعاطي المخدرات والخمور، كما تسبب في هجرة المزارعين والرعاة لأراضيهم وحيواناتهم من أجل العمل في مجال التعدين التقليدي.
ومنذ اكتشاف عروق الذهب عامي 2008 و2009، شهدت مناطق شمال السودان تدفقات كبيرة لطالبي العمل في التعدين، كما تسبب نشاط أعداد كبيرة من التجار في مجال التنقيب عن الذهب في اجتذاب عدد مقدر من التلاميذ وتسربهم من المدارس للعمل مع أهلهم في التنقيب، إلى جانب تدهور ملحوظ لنشاط الزراعة وارتفاع أسعار المواد الغذائية.
وتنتشر مواقع التعدين التقليدية في ولايات نهر النيل والبحر الأحمر والنيل الأزرق وجنوب كردفان وشمالها وولايتي القضارف والجزيرة، وغالباً ما تنشأ حول أماكن التعدين مخيمات عشوائية.
ووفق مؤشر تصنيف أسوأ الدول من حيث عمالة الأطفال الصادر عن شركة “مابل كروفت” Maplecroft)) للاستشارات الدولية 2018 جاء السودان في المرتبة الخامسة عالمياً والرابع أفريقياً بنسبة 45.6 في المئة من إجمالي الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 10 و14 سنة، 31.5 في المئة منهم لا يذهبون إلى المدرسة، بينما يعمل في الزراعة نحو 60.2 في المئة من الأطفال العاملين، مقارنة بـ38.2 في المئة بقطاع الخدمات.
السودان الجديد