ضحايا الجوع… أطفال السودان يدفعون ثمن الأزمات المحلية

تتزايد وفيات الأطفال في السودان بسبب أمراض ناجمة عن سوء التغذية الحاد، والذي يتفشى محليا بسبب الأزمة الاقتصادية والسياسية وتراجع إنتاج المحاصيل الرئيسية في ظل توقف برنامج الأغذية العالمي عن تقديم المساعدات.

– لم تفلح جهود الأطباء في إنقاذ حياة الرضيعة السودانية رحاب عيسى آدم ذات التسعة عشر شهرا بعدما مكثت 9 أيام في عيادة اللجنة الأميركية للاجئين Alight (منظمة دولية غير ربحية)، بمعسكر كلمة للنازحين في ولاية جنوب دارفور، إلى أن توفيت في 15 أغسطس/آب الماضي بعد معاناتها من سوء تغذية حاد، كما تقول والدتها الثلاثينية أنصاف عمر عبد الله بأسى يغطي محياها، وتضيف: “ابنتي ساءت حالتها كثيرا بعد إصابتها بعدة أعراض من بينها الإسهال والقيء، وتورم في اليدين والوجه، وفقدت قدرتها على الأكل مع عجزي عن إرضاعها بسبب الجوع”.

وعقب معاناة الأسرة مع رحاب، شُخّص شقيقها والذي لم يتجاوز عمره عامين بفقر الدم (الأنيميا)، نتيجة سوء التغذية أيضا، ما اضطر والده إلى نقله لمستشفى نيالا التركي في دارفور بعد وفاة رحاب بثلاثة أيام وكله أمل في ألا يخسره أيضا، لكن فقره حال بينه وبين نفقات العلاج ما أجبره على العودة به إلى المنزل.

ويعيش عيسى آدم، المتزوج من سيدتين ولديه 8 أطفال، في معسكر كلمة منذ فرار العائلة من النزاع الدائر في الإقليم عام 2003، ولا يزيد دخله اليومي عن مبلغ يتراوح بين 1500 و1700 جنيه سوداني (2.62 إلى 3 دولارات أميركية)، غير أن مساعدات برنامج الأغذية العالمي كانت تحميهم من معاناة الجوع، لكن توقفها منذ يونيو/حزيران 2022، أسفر عن إصابتهم بسوء تغذية حاد وفقر دم، وهي أمراض شائعة بين أطفال السودان إذ يعاني 4 ملايين طفل دون سن الخامسة، من سوء التغذية الحاد ويحتاجون إلى خدمات التغذية الإنسانية المنقذة للحياة بحسب التحديث المنشور في يونيو الماضي على موقع مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا)، والذي يؤكد أن من بين 618.950 طفلا دون سن الخامسة يعانون من سوء التغذية الحاد الشديد، هناك 92.843 يعانون من مضاعفات طبية وبالتالي يحتاجون إلى رعاية متخصصة، ما يسهم في زيادة معدلات الإصابة بالأمراض والوفيات الناجمة عن سوء التغذية بين الأطفال دون سن الخامسة.

أين يتركز سوء التغذية في السودان؟

يعاني 2 من كل 10 أطفال في مختلف الولايات من نقص التغذية Undernutrition، بحسب تقرير “حالة التغذية والاتجاهات في السودان” الصادر عن وزارة الصحة الاتحادية في 2019، والتي تشدد على ضرورة اتخاذ مزيد من الخطوات لتحسين فرص بقائهم على قيد الحياة.

ويتواجد غالبية من يعانون من الجوع الحاد في الخرطوم، وفي إقليم دارفور، ومحافظتي كسلا والنيل الأبيض، وهي المناطق الأكثر تضررا من الصراع والتدهورالاقتصادي ويتركز فيها النازحون، وفق رصد أوتشا، والذي يبين أن 11 ولاية من أصل 18 سجلت انتشارا لسوء التغذية الحاد، وفي أعقاب موجة الجفاف التي ضربت السودان في فبراير/شباط 2022، ازدادت الأعداد التقديرية لحالات سوء التغذية بين الأطفال والحوامل والمرضعات، وبلغت ذروة فترة الجوع من يونيو إلى سبتمبر/أيلول 2022، نتيجة ارتفاع التضخم والاقتصاد الهش ونوبات الجفاف الطويلة وقلة المساحات المزروعة وعدم انتظام هطول الأمطار.

وأدت العوامل السابقة، إلى ارتفاع سعر سلة الغذاء المحلية بنسبة 57.8% منذ بداية عام 2022، وفقا لتقرير “السودان: التقييم الشامل للأمن الغذائي وهشاشة الأوضاع – الربع الأول 2022″، الصادر عن برنامج الأغذية العالمي في يونيو الماضي، وتفاقمت الأوضاع المعيشية الصعبة للكثير من السودانيين بسبب الجفاف والنزاع، نتيجة لذلك، ما أسفر عن حالة نزوح من مختلف ولايات السودان، وكذلك اللاجئون من البلدان المجاورة، باتجاه العاصمة الخرطوم والمدن الكبيرة، في محاولة للحصول على الخدمات والطعام.

تنامي الجوع وسط تراجع الإنتاج الزراعي

تعزو مسؤولة التغذية في منظمة الصحة العالمية – مكتب السودان، أميرة محمد، تفشي سوء التغذية إلى الفقر الحاد، وانتشار الأمراض، وتلوث المياه، والفيضانات، والصراعات خاصة في النيل الأزرق ودارفور وجنوب كردفان، موضحة أن نقص البروتين والمغذيات الدقيقة مثل فيتامين (أ) و(ب) و(د) والحديد واليود يتسبب في سوء التغذية الحاد خاصة لدى الأطفال الذين تقل أعمارهم عن 5 سنوات، لذلك تجرى محاولة علاج سوء التغذية قبل تجاوز عامين حتى لا يتحول إلى سوء تغذية حاد ومزمن، وهو ما يؤكده تقرير التقييم الشامل للأمن الغذائي والهشاشة الصادر عن برنامج الأغذية العالمي، مشيرا إلى أن عوامل الآثار المجتمعية للأزمة الاقتصادية والسياسية والنزاع والنزوح والصدمات المناخية وضعف إنتاج المحاصيل أثرت بشكل كبير على فرص حصول السودانيين على الغذاء.

وعانى 34% من السكان (حوالي 15 مليون شخص) من عدم استتباب الأمن الغذائي خلال الربع الأول من عام 2022، وهي نسبة تزيد بمقدار 7% مقارنة بالمدة نفسها من عام 2021، إذ كان 27% من السكان (12 مليون شخص) يعانون من عدم استتباب الأمن الغذائي، ولوحظت أعلى نسبة انتشار لعدم استتباب الأمن الغذائي في ولايات غرب دارفور بنسبة 65%، ووسط دارفور بنسبة 59%، وشمال دارفور سجلت 56%، والنيل الأزرق 50%، وفق تقييم برنامج الأغذية العالمي.

“وخلال حصاد عام 2021 /2022، كان السودان قادرا على إنتاج 5.1 ملايين طن من الحبوب، وهو ما يكفي لتغطية احتياجات أقل من ثلثي السكان فقط، لكن الموسم الزراعي لم يتلق دعما حكوميا قويا من خلال المدخلات الزراعية وخدمات الثروة الحيوانية، لذلك من المتوقع أن يرتفع عدد الأشخاص الذين يعانون من انعدام الأمن الغذائي بشكل كبير إلى مستويات غير مسبوقة ويؤدي في النهاية إلى مزيد من الصراع والنزوح”، بحسب ما جاء في التقييم السابق على لسان ممثل منظمة الأغذية والزراعة في السودان باباغانا أحمدو.

وانعكس التراجع في إنتاج الغذاء على العديد من المناطق ومنها جبل مرة في ولاية وسط دارفور، والتي سجلت تزايدا في حالات سوء التغذية الحاد بين الأطفال منذ يونيو الماضي، إذ استقبلت عيادات منظمة أطباء بلا حدود المتنقلة في يوليو/تموز الماضي نحو 114 طفلا ما دون الخامسة في برنامج التغذية العلاجية للمرضى الخارجيين، فيما تمت إحالة 12 طفلا الى المستشفى التابع لأطباء بلا حدود في جبل مرة، بحسب إفادة أحمد عباس خليفة، نائب المنسق الطبي للمنظمة في السودان، عازياً انتشار سوء التغذية إلى نوعية الطعام، وعدم حصول الأمهات على تغذية كافية ليتمكنّ من إرضاع الأطفال، بالإضافة إلى وجود أكثر من طفل عمره أقل من خمس سنوات في الأسرة الواحدة، وتأخر الوصول للعلاج بسبب طبيعة المنطقة الجبلية خاصة أن وسيلة المواصلات الرئيسية هي الدواب، ومع هطول الأمطار تزداد صعوبة الوصول إلى القرى هناك وبالتالي إيصال الأغذية، بالإضافة إلى صعوبة وصول الأسر التي لديها أطفال يعانون من سوء التغذية إلى عيادات المنظمة في ظل وجود عوائق أمنية أيضا، ليحضر الأطفال إلى المستشفى في حالة متأخرة.

كيف انعكس سوء التغذية على أطفال السودان؟

لم تتحسن أوضاع الأمن الغذائي في السودان منذ 30 عاما، وما زال عدد الأطفال الذين يعانون من التقزم (قصر القامة بالنسبة للعمر)، والذين يعانون من الهزال (النحافة للغاية بالنسبة للطول) آخذا بالزيادة خاصة في الولايات الشرقية ودارفور التي تمزقها النزاعات، بحسب ورقة حقائق حول التغذية أصدرتها اليونيسيف في أغسطس/آب 2022.

وتسبب سوء التغذية في وفاة 68 طفلا سودانيا من بين كل 1000 طفل أصيب به دون سن الخامسة، فيما تُسجل سنويا 2.2 مليون حالة لأطفال أقل من خمس سنوات يعانون من التقزم الشديد، و16.3% من الأطفال يصابون بهزال شديد بين عمر 6 شهور إلى 59 شهرا بحسب تقرير (سياسة التغذية الوطنية)، الصادر عن إدارة صحة الأم والطفل في وزارة الصحة السودانية في يناير/كانون الثاني 2021.

التقزم

وتوضح بيانات الوزارة المنشورة في تقرير “حالة التغذية والاتجاهات في السودان” لعام 2019، نسب انتشار الأمراض الناجمة عن سوء التغذية في الولايات السودانية، إذ يؤكد التقرير أن نسبة التقزم بين الأطفال ما دون الخامسة ما تزال عالية ووصلت إلى نسبة 36.35%، وينتشر في 16 ولاية من أصل 18، وسجلت ولاية البحر الأحمر أعلى نسبة حالات، بلغت 48.4% تلتها ولاية كسلا 47.7% وشمال دارفور 45.8 %، والقضارف 45.2%، ووسط دارفور 41.6%، وغرب دارفور 41.5%، وشمال كردفان 40.11%، وجنوب كردفان 40.8%، والنيل الأبيض 39.9%، وشرق دارفور 39.6%، ونهر النيل 39%، والنيل الأزرق 37.2%، وغرب كردفان 36.8%، والجزيرة 35%، والشمالية 30.2%، والخرطوم 25.2%، وجنوب دارفور 23.7%.

هزال في السودان

أما الهزال فإن انتشاره في 7 ولايات تعدى النسبة الحرجة التي حددتها منظمة الصحة العالمية بـ 15% من عدد الأطفال ما دون سن الخامسة، وكانت نسبة انتشاره في ولاية البحر الأحمر 24.9%، ونهر النيل 19.6%، وشمال دارفور 19.1%، وشرق دارفور 18.9%، والشمالية ووسط دارفور 16.5%، وسجلت ولاية جنوب دارفور 15%، والخرطوم 14.6%، وغرب كرفان 12.2%، وشمال كردفان 11.8%، والقضارف 10.9%، وسنار 10.6%، والجزيرة 10.4%، فيما بلغت نسب كل من ولايات النيل الأبيض 9.6%، وكسلا 9.4 %، وجنوب كردفان 7.8%، والنيل الأزرق 7%.

الأنيميا

ويوضح التقرير ذاته، أن طفلا من بين اثنين ما دون الخامسة يعاني من الأنيميا، (نقص الحديد)، وبلغت نسبة انتشار المرض في ولاية شرق دارفور 66.44%، والنيل الأزرق 60.93%، ونهر النيل 55.58%، والبحر الأحمر 54.96%، وكسلا 52.82%، وشمال كردفان 51.49%، والقضارف 50.92%، وسنار 50.14%، وجنوب كردفان48.88 %، والجزيرة 47.81%، وشمال دارفور 46.68%، ووسط دارفور 45.25%، والخرطوم 44.84%، والشمالية 44.69%، والنيل الأبيض 44.19%، وجنوب دارفور 41.44%، وغرب كردفان 40.20%، وغرب دارفور 32.99%.

تحقيق تلوث مياه الخرطوم 1
الأرشيف
التلوث في الخرطوم… موت في شربة ماء
توقف المساعدات يزيد وفيات الأطفال
تقول اختصاصية التغذية، ومنسقة برنامج المغذيات الدقيقة بوزارة الصحة في ولاية البحر الأحمر، صابرين محمد ياسين، إن تراجع الدعم الدولي انعكس سلبا على المتابعة والإشراف في مراكز التغذية العلاجية وجودة العمل وبالتالي زيادة حالات سوء التغذية.

الصورة
معسكر كلمة
تزايد حالات سوء التغذية بين الأطفال في معسكر كلمة للنازحين بعد توقف الدعم الدولي (العربي الجديد)
ويصف الناطق باسم المنسقية العامة للنازحين واللاجئين (غير حكومية تعمل في دارفور) آدم رجال، الوضع الصحي خاصة في معسكرات النازحين واللاجئين بالحرج والمتردي، قائلا لـ”العربي الجديد” إن معسكر كلمة الذي يضم 35 الف نسمة، سجل 5259 حالة سوء تغذية بين الأطفال، حتى بات المركز الصحي يستقبل 1000حالة شهريا، وبلغ عدد الوفيات 45 حالة في الفترة الممتدة من يونيو وحتى أغسطس الماضيين منها 20 حالة في يونيو، و19 حالة في يوليو، و6 وفيات في أغسطس، وذلك بعد توقف برنامج الأغذية العالمي عن تقديم المساعدات واستبدالها بدعم نقدي قدره 4 آلاف جنيه للشخص الواحد (7 دولارات)، ليصبح متوسط دعم الأسرة التي تتكون من خمسة أفراد، 20 ألف جنيه (35 دولارا) شهريا، وبالتالي لا تصمد أكثر من أسبوع مع ارتفاع الأسعار.

وانعكس تأخير صرف الحصص الغذائية على صحة الأطفال، إذ وصل عدد المصابين بسوء التغذية الحاد وتحديدا ممن تقل أعمارهم عن 5 سنوات إلى 767 طفلا، أما حالات سوء التغذية المتوسطة، ويشمل العدد الأطفال دون الخامسة والنساء الحوامل والمرضعات فبلغ 909، ووصل عدد حالات سوء التغذية الوقائية (حالات تُمنح مغذيات للوقاية من الإصابة) ويشمل الأطفال والنساء الحوامل والمرضعات إلى 616 حالة، بحسب رجال.

ووزع البرنامج في السابق حبوب الذرة أو الدخن، وزيتا، وسكرا، وملحا، كما يوضح رجال لكن منذ توقف، أصبحت غالبية الأسر داخل المعسكرات تكتفي بوجبة واحدة خلال اليوم في ظل تراجع الأحوال المعيشية نتيجة الأزمات السياسية والاقتصادية لتتفاقم معاناة العائلات ويتزايد جوع الأطفال.

العربي الجديد

Exit mobile version