الجامعة الوحيدة في العالم التي لا يمكن أن تدخلها إلا إذا كنت متفوقاً في مراحل تعليمك جميعاً، جامعة لا يمكن أن تدخلها سهواً أو بالخطأ، وما ذلك إلا لمحدودية مقاعدها عبر الزمن. إذا كانت جامعة هارفرد قامت برعاية جامعة كمبريدج، قامت جامعة الخرطوم برعاية جامعة كمبريدج أيضاً، وهما الجامعتان الوحيدتان اللتان قامتا على الجامعة الأولى فى التصنيف العالمي.
جامعة الخرطوم دون غيرها من الجامعات كبرت كما يكبر الطفل في نمو طبيعي محكم، بدأت في ٨ نوفمبر من العام ١٩٠٢ عندما افتتحها اللورد كتشنر، وكانت بدايتها كمدرسة ابتدائية وفي العام ١٩٠٣ اكتملت مبانيها ككلية غردون ضم إليها معهد المعلمين من أم درمان، وانتقل إلى مبانيها، الذي أصبح نواة للجامعة، وكما ضمت لها مدرسة الخرطوم الابتدائية، وبعض الورش لتعليم الطلاب الرسم الهندسي، وبعض المهن.
فى العام ١٩٠٥ بدأت نظام تطبيق الدراسة الثانوية بعد الابتدائية فى كلية غردون، ثم انشأ قسم لتخريج مساحين ومساعدى مهندسين، وفي العام ١٩٠٦ بدأت فى تخريج معلمين للمدارس الابتدائية.
فأصبحت كلية غردون متخصصة في تخريج الإداريين والفنيين والمعلمين. في ٩ فبراير ١٩٢٤ افتتحت مدرسة كتشنر الطبية على نفقة الحكومة السودانية وأوقاف التاجر الإيراني أحمد هاشم البغدادي الذي أوقف كل ثروته للصرف على المدرسة. وتعتبر مدرسة كتشنر أول مدرسة طبية انشأت في شمال أفريقيا، ولم تتقيد بمناهج كليات الطب في إنجلترا، ومن ثم تحولت كلية غردون إلى مدرسة ثانوية، وألغيت المرحلة الابتدائية وفي سنة ١٩٣٧ تقرر ربط كلية غردون بشهادة الثانوية بجامعة كمبريدج ببريطانيا، والحصول على الشهادة يؤهل الطالب بالدراسة في انجلترا، ثم أنشئت كلية البيطرة في ١٩٣٨، وكلية الهندسة ١٩٣٩، وكلية الحقوق والآداب. وفى ١٩٤٤ تم تجميع كل الكليات ما عدا كلية كتشنر الطبية، وجلست أول دفعة من طلابها لشهادة جامعة لندن في ١٩٤٦. وتم نقل المدرسة الثانوية إلى وادى سيدنا لتصبح مدرسة وادي سيدنا، هكذا ولدت هذه الجامعة العملاقة، كما تم ذكره نشأت كالطفل من الابتدائية وحتى أصبحت الجامعة الأكثر حيوية وتأثيراً.
فى السودان إذا قلت كلمة الجامعة بالألف واللام فالمقصود دون تصريح هي جامعة الخرطوم، شرفنا الله أن نكون من طلابها ثم من أساتذتها، وأكبر شرف هو الانتماء إليها. خصوصيتها ليست في هذا التاريخ العظيم وحده، ولكن فى كل جزء منها عبقرية المكان وعبقرية من ينتسبون لها، وعبقرية النظم والتقاليد والأسس التي القامت عليها، بها نظام ينساب لحاله وتقاليد راسخة بعمق، يتأدب المنتمي لها بأدب معلوم وسلوك مرسوم لغة التخاطب فيها رفيع والزمالة فيها مقدسة حتى الحب فيها طاهر عفيف والعشرة فيها أصيلة والاحترام محفوظ والمعرفة متدفقة كأنها السيل لاحصر في القاعات أو المكتبات، أكاد أجزم المعرفة فى الحرم الجامعي ينافس تلك التي في المكتبات وقاعات الدرس، أساتذتها قامات كالجبال الراسيات من المعرفة والتواضع الجم، وكل طلابها مشاريع معرفية مستقبلية وآنية، طالباتها سيدات مجتمع جمالهن غير متبرحات بزينة عقولهن وأدبهن واحترامهن.
كل فرد في الجامعة له دور يعرفه ويعمل به من الساعة السادسة صباحاً وحتى الساعة الحادية عشرة مساءً، وهذا نشاط يومي على مدى العام الدراسي. أثر الجامعة العلمى والمعرفي لم يفصّل ظله على السودان بل طاف بلاد العالم كالسحاب، روى كل أرض فهتزت وربت، أنبتت ما ينفع الناس، رمت بفلذات أكبادها في كل العالم فأنتجت معرفة ذات جودة، وعلم ذي أثر.
كل من انتسب لها وسألته عن أمنيته وأمانيه لقال لك أرغب أن أرجع لجامعة الخرطوم كأنه رحم الحقيقة التي لا بعدها ولا قبلها حقيقة.
عاد اليوم تاريخ ميلادها وما برحت مكانها جميلة ومستحيلة أشهد الله تنقلت بين الجامعات أستاذاً، ولكن يشهدالله لم يصادفني جودة طلابها ولا عبقرية مكانها شممت جزءاً من ريحها عند ما قضيت بعض الوقت في جامعة أكسفورد، إلا أن سحرها فقط بها، أما طلابها فلا مثيل لهم إلا فيها.
اللهم أمنن عليها من يعيدها سيرتها الأولى، ووفق من تولى أمرها معرفة قيمتها ومقدرتها. وأختم قولي لا يغرنكم ما تسمعون من ترتيب الجامعات وتصنيفها فهى عصية على الترتيب والتصنيف ويكفيها أنها جامعة الخرطوم مترامية الأثر والسلام.
السوداني