في الآونة الأخيرة خرجت دراسات وإحصاءات عدة تؤكد تفشي الأمراض النفسية في السودان، إذ أبرزت آخر إحصاء أن “13 في المئة من طلاب المرحلة الثانوية في ولاية الخرطوم يعانون الاكتئاب أو القلق”، وأفاد إحصاء آخر أن “23 في المئة من النساء يعانين اضطرابات ما بعد الولادة، و24.3 في المئة يشكون الاكتئاب، و23.6 في المئة مرضى بالقلق، و14.2 في المئة لديهم فوبيا اجتماعية، ونسبة 14.2 في المئة يعانون اضطراب ما بعد الصدمة”.
وأعلنت وزارة الصحة الاتحادية عن “زيادة في عدد حالات الإصابة بالأمراض النفسية”، وكشف مستشفى “التجاني الماحي” للأمراض النفسية أن “عدد المترددين عليها بلغ 200 مريض يومياً”.
المديرة العامة للمستشفى أمل التجاني قالت إن “مقدمي خدمة الرعاية الصحية النفسية في السودان يعانون الوصمة، إضافة إلى انخفاض قيمة الاستبقاء والكشف الموحد البالغة 66 ألف جنيه (110 دولارات)، مقارنة مع التخصصات النادرة الأخرى البالغة 500 ألف جنيه (820 دولاراً)”.
على وشك الانتحار
الاستشاري النفسي والعصبي علي بلدو قال إن “السودان الآن في حاجة إلى أطباء نفسيين ومعالجين سلوكيين أكثر من حاجته إلى مدنيين وعسكريين، لأن مشكلات الشعب تكمن في حل وتفكيك شفرة الشخصية السودانية والتحرر من القيود وإحداث نوع من المصالحة بين مكونات المجتمع المختلفة، وحل مشكلة النفوس التي تحمل الضغائن نحو الآخرين، ويجب تأهيل المواطنين والقادة نفسياً واجتماعياً من أجل خلق السودان الجديد”.
وعن انتشار المرض النفسي في السودان خلال الآونة الأخيرة، قال بلدو إن “المتلازمة السودانية أصبحت داء أصاب البلاد والسودان يعاني كثيراً من المشكلات على كل الصعد، مما جعل البلاد تموج بالاضطرابات حتى أصبحت فاشلة ومكتئبة وذات أفق مسدودة، والسودان كبلد على وشك الانتحار تماماً”.
وقال بلدو إن “الفقر مرتبط ارتباطاً كبيراً بالمرض النفسي، فالظروف الاقتصادية والضغط المعيشي وعدم القدرة على تلبية الحاجات الضرورية بجانب سوء الحال الاقتصادية والمالية تفضي إلى التوتر والقلق والكآبة والشعور بالغبن، وتجعل الشخص يعيش حالاً نفسية غير مستقرة عند التعامل مع مثل هذه الظروف مما يفاقم المشكلات الأخرى مثل الشعور بالدونية وعدم القدرة على تلبية حاجات الأسرة”.
مدارات الفقر والقلق
وأضاف بلدو أن “للفقر وسوء الأحوال الاقتصادية علاقة بضعف المناعة وظهور أمراض مثل الدرن والتبول اللاإرادي، فضلاً عن الإصابة بالأرق الليلي وعدم القدرة على النوم بارتياح وضعف التحصيل الأكاديمي والاجتماعي والعملي وارتفاع وتيرة الخلافات والمشاجرات داخل الأسرة، مما يقود إلى السرقة وتجارة المخدرات والاغتصاب وتكوين العصابات”.
أما عن دور الحكومة في التقليل من عدد الحالات المرضية فقال بلدو إنه “من الواجب توفير الحياة الكريمة لكل المواطنين من صحة وتربية وتعليم ومياه وكهرباء، وتقديم الدعم الاجتماعي والنفسي والإرشادي وحل الخلافات الاجتماعية والنزاعات ومحاولة معالجة الأزمات الاقتصادية حتى تكون سبباً في حل الأزمات النفسية”.
ويعاني قطاع الصحة النفسية في السودان من مشكلات عدة أبرزها تردي أوضاع المستشفيات، وفي هذا السياق قال بلدو “يوجد في السودان عموماً ثلاثة مستشفيات حكومية تابعة لوزارة الصحة الاتحادية، اثنان منها في الخرطوم مع عدد من الأقسام الخاصة بالطب النفسي في ولايات السودان إلى جانب وجود مصحات خاصة تابعة لإدارة الخدمات الطبية الحكومية، وكلها لا تفي بالغرض وسعتها لا تتجاوز 10 أسرة في المستشفى الواحد، إذ يعاني المريض لإيجاد سرير وكثير من المرضى لا يتم تنويمهم لعدم وجود مكان لهم في ظل الارتفاع الكبير في عدد الحالات، إذ إن مواطناً بين كل اثنين يعاني الاكتئاب أو القلق أو التوتر”.
أن تقاتل وحيداً
ويرى بلدو أن “المريض النفسي في السودان لا ناصر له في ظل الإهمال المتعمد للطب النفسي والعصبي، وعدم رصد موازنات كافية لإنشاء مراكز جديدة والتوسع في المستشفيات وتحسين بيئتها الداخلية واحترام كرامة وخصوصية المريض النفسي والعصبي، وتوفير الأجهزة والأدوية التي تشكل عائقاً أمام المرضى بسبب ندرتها وارتفاع أسعارها إذا وجدت، مما جعل المريض النفسي يقاتل وحيداً”.
وحول قطاع الطب النفسي في السودان قال بلدو إن “ما ينفق على الصحة النفسية لا يساوي واحداً في المئة مما ينفق على حبوب التسمين وكريمات التجميل وحتى ألعاب الأطفال نتيجة الفهم الخاطئ لهذا المجال، والوصمة الاجتماعية التي تجعل كثيراً من المرضى يلجأون إلى جهات غير طبية، إذ إن 90 في المئة منهم لا يتلقون العلاج على أيدي المتخصصين بل المشعوذين والدجالين والعلاج الشعبي، مما يفاقم الظاهرة أكثر”.
وعن ازدياد عدد الحالات أكد بلدو أن “هناك تصاعداً خطراً في معدلات الإصابة بالأمراض النفسية والعصبية، فهناك 22 مليون شخص من جملة 40 مليون سوداني مصاب بالاكتئاب، إلى جانب 700 ألف يعانون أمراض الذهان وإضرابات وجدانية مع ارتفاع حالات الإصابة بالقلق والتوتر”.
مصدر من وزارة الصحة الاتحادية رفض ذكر اسمه قال إن “وضع المستشفيات عموماً متدن ويحتاج إلى مراجعة عامة وليس الطب النفسي فقط، إذ يحتاج المجال إلى جهود مكثفة من قبل الحكومة والوزارة خصوصاً مع تفاقم عدد الحالات أخيراً”.
الطبيبة النفسية خالدة ياسر قالت إن “أوضاع المستشفيات متردية وتحتاج قبل كل شيء إلى صيانة وتأهيل، لأن المريض النفسي يحتاج إلى بيئة معينة ونظيفة ولكنها غير موجودة، إضافة إلى سوء أوضاع الكادر العامل مما يجعل الأجواء غير صحية على الإطلاق”.
اندبندنت