منوعات

(مرضان باكي فاقد فيكي علاج طبيبي).. أغنية سببها بيت إيجار

الوانهم بيضاء لايقارع شدة بياضها الا قلوبهم وكأنما هم الذين قال عنهم د. عبدالواحد عبدالله (بيض الوجوة كأنهم رضعوا على صدر القمر) ، تحسبهم وكأنهم لؤلؤ مكنون ممزوج بسحر الروعة والجمال ويزيدهم علمهم وتواضعهم حبا وعشقا لكل السودانيين الذين عرفوهم وعايشوهم عن قرب، انهم احباؤنا واخواننا الاقباط الذين استوطنوا ردحا من الزمان داخل قلوبنا قبل ان يستوطنوا معنا في الاحياء والحارات المختلفة فكان حسانهن ملهما لمعظم شعراء الحقيبة وفناني الزمن الجميل..

ويكفي ان ابو صلاح لمح احداهن وكتب فيها (ياجوهر صدر المحافل).. إلا ان العبادي والحاج محمد احمد سرور عندما مر بمناسبة للاقباط بحي المسالمة قال العبادي فيهم رائعته المجيدة (ببكي وبنوح وبصيح للشوفتن بتريح) وابو السيد ليس ببعيد عن ذلك المد الجمالي وذلك عندما لمح احداهن في قمة حسنها وهي تلامس وتداعب غصنا يحمل زهرا فقال فيها ( في بنانك ازدهت الزهور زادت جمال ونضار وطيب – يامداعب الغصن الرطيب) إلا ان الجاغريو كان واضحا وصريحا عندما عرّف الناس بمكان سكنها وقال (ظبية المسالمة) في قصيدته (بنت النيل) الي ان استبد به سحر الروعة والجمال وقال (دا الجنن عبد القادر) ، (كوكتيل) تدلف الى خيمة احد شعراء الحقيبة الكبار الذي ادلى بدلوه في محراب جمال الاقباط وكتب في احداهن (مرضان باكي فاقد) انه الشاعر الكبير محمد علي عثمان بدري .

ميلاد القصيدة
كُتبت القصيدة تحديدا في شهر يوليو للعام 1946م وبعد ذلك ان قام الشاعر بإعطاء القصيدة لعدد من فناني الحقيبة حيث غناها اولاد شمبات بجانب الفنان الكبير (كرومة) الا انها استقرت بشكل كبير ورسخت على اذهان المستمعين من الثنائي ميرغني المامون وأحمد حسن جمعة اللذين كانا يقطنان في نفس حي الشاعر محمد علي عثمان بدري ،، وللكم الجمالي المميز في ابيات القصيدة وروعة الاخيلة فيها والجرس الموسيقي وقع مميز وفريد جعلها تتسيد معظم مناسبات الافراح والفعاليات الغنائية المختلفة في عدد من البرامج ، ولشدة جماليات القصيدة وكثرة طلبها في برنامج مايطلبه المستمعون ، قام الثنائي ميرغني المامون وأحمد حسن جمعة بتقديمها في مهرجان الثقافة الاول ، بعد أن صفق الحاضرون وتفاعلوا ايما تفاعل عندما عرفوا ان الثنائي سيقدمان (مرضان باكي فاقد).

منزل ايجار
كان للشاعر محمد علي عثمان بدري منزلا بحى العرب بأم درمان يقوم بإيجاره لمن يرغب ، وفي احدى المرات جاءت اسرة قبطية واستأجرت المنزل لمدة طويلة وكان من بين افراد تلك الاسرة حسناء بارعة الحسن والجمال سلبت لب ووجدان الشاعر محمد علي للحد البعيد ، إلا انه كان يمتلك بداخل المنزل حديقة كبيرة فائقة الخضرة والجمال وبسبب تلك الحديقة كان الشاعر يأتي يوميا للدار بحجة تنسيق الازهار وسقيا الاشجار وترتيب الحديقة ، ولكن هدفه الاساسي والاول هو نظرة واستئناس لشخص المحبوبة التي اضحت تبادله السلام والابتسامات كلما جاء لتنظيم الحديقة ، ولكن شاءت الاقدار أن يسافر الشاعر محمد لفترة استمرت عدة اشهر الي بعض ولايات السودان المختلفة ، ليستبد به الشوق والوجد للقياء المحبوب وعندما وصل لأم درمان ذهب مباشرة الى منزل المحبوب قبل ان يصل الى منزله ولسان حاله يقول في احد ابيات قصيدته تلك معبرا عن شوقه ووجده ( انا لي مدة طالت ماشاهدت قمري – ما شاهدت الغصن اليانع فيهو ثمري) ولكنه تفاجأ بأن الدار خالية تماما من السكان وقتها علم بأن الساكنين قد تركوها تماما ورحلوا لذلك اصبح ينادي الاطلال ويسأل الدار ويناجيها ويصف حاله قائلا ( مرضان باكي فاقد فيكي علاج طبيبي – قالوا ترك سكونك يا دار وين حبيبي).

جمالية النظم
القصيدة وكما وصفها عدد من النقاد الفنيين تعتبر شعلة من المشاعر المتقدة وثورة متصاعدة من الوجد والشوق والحنين البائن في كل ابيات الاغنية حيث انها تميزت بشكل المناجاة المباشر للاطلال والدار بانسياب وجداني حزين وعميق للغاية خصوصا عندما يسأل المنزل ويقول (يادار من بقاياك فوحي جيبي طيبي – او عاتق شميم النرجس من رطيبي ) ولكنه يرد على نفسه بنفسه بمنتهى الحزن والوجد ويقول ( ما ردت سؤالي واجابت دار حبيبي – سدّت حلقي عبرة ونفسي متين تطيبي )،، نفحة اللغة الأم درمانية الشاعرية تكاد ان تكون بائنة للعيان بشكل واضح وهو مزج وتهجين العربية الفصحى بالعامية البسيطة وذلك دون ان تطغي فصاحة العربية على العامية ودون أن تضعف العامية قوة النص فانظر للشاعر عندما يستخدم كلمة (عبرة) وهي كلمة مؤغلة في الفصاحة العربية ولكنه استخدم معها في البيت الثاني (تخَبري) وتخبري بفتح الخاء وسكون الباء تعتبر من مفردات البادية السودانية الموغلة في العامية المناطقية الخاصة لذلك قال “سدّت حلقي (عبرة) و نفسي متين تطيبي” و هناك قال (حب الغيرة خافي يا الانتي بتخبري –
اسألي منه قلبك ومن نيرانو تبري) وانظر روعة جمال مفردة (خافي) الفصيحة لتأتي بعدها مفردة (تَبرِي) ذات الاستخدام المرسل فقط للأنثي ، انسجام مفردة (تبري) بالتاء المفتوحة وسكون الباء التي تأتي بعد الياء المقصورة مع كلمة (خافي) البليغة لا يدانيهما جمال وانسجام الا انسجام الاقباط والسودانيين في حي العرب وحي المسالمة وبقية مدن السودان المختلفة.

وجد وحزن
اتفق عدد كبير من النقاد بأن البيت الذي قال فيه الشاعر (حورة في نعيمه طواها جبينها بدري – انا فى ناره ساهر باكي أريتها تدري) يعتبر من ابلغ ابيات شعر الحقيبة وذلك ليس لدفقة الحزن والحنين اللتين تتسيدان موقف هذين البيتين ولكن للتورية العميقة والخفية للحد البعيد التي استخدمها الشاعر مع قوة القافية والجرس الموسيقي وتظهر تلك التورية في ان الشاعر اصلا ملقب (بود البدري) وقال (حوره في نعيمه طواها جبينها بدري – انا فى ناره ساهر باكي أريتها تدري) فالتورية جاءت هنا بالمعني البعيد بموارة اسم الشاعر (بدري) في اروقة النص ثم بدري آخر انعكس جماله وبهاؤه على جيبن تلك الحسناء ، ويستمر المد العاطفي العميق الى ان يميت ود البدري نفسه ويمني النفس حتى بعد موتها بطيف محبوبته عله يشفي جراحه عندما يزوره بضريحه لذلك قال (لو كلمتي طيفك قلت يزور ضريحي
أو قلتيلو داوى علل عاشقي وجريحي)،، في البيتين قبل الآخرين استخدم ود البدري مايسميه الناقد عوض بابكر بالشيطنة الشعرية التي لا تتأتى الا لكبار الشعراء وذلك عندما كشف الشاعر عن حقيقة مشاعره بصورة اكثر شفافية ووضوح وادخل كلمة شاعر في تورية بمنتهي الروعة والابداع وقال دمعي إذا طريتك بين الناس فضحنى.. أنا(شاعر) فؤادك في الحب امتحنى).

رحم الله الشاعر الكبير محمد على عثمان بدري ورحم العملاقين ميرغني المامون وأحمد حسن جمعة.

نقلا عن صحيفة السوداني

تعليقات الفيسبوك

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى