هل يضطر المجلس السيادي لإعلان حكومة طوارئ؟
وسط تزايد تعقيدات الفترة الانتقالية واتساع رقعة الخلافات بين مكوني الحكومة المدني والعسكري، وقوى الحرية والتغيير لوَّح الفريق أول عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة الانتقالي باحتمال إقدام المجلس على تشكيل حكومة طوارئ، نظراً لتأخر قوى الحرية والتغيير والجبهة الثورية في تقديم ترشيحاتها للحكومة الجديدة. وقبل أن يلجأ المجلس السيادي إلى هذه الخطوة برزت قضية دستوريتها، وما إذا كانت ستحلُّ محل الفترة الانتقالية وفي إطارها الزمني، ومؤشرات تهديدها للتحول الديمقراطي. وعلى هذا الأساس سارع مجلس شركاء الفترة الانتقالية بعقد اجتماع برئاسة الفريق البرهان للاتفاق على تسليم قائمة مرشحي الوزارات لرئيس مجلس الوزراء عبدالله حمدوك.
آراء متباينة
إذا اُضطر المجلس السيادي لفرض حكومة طوارئ فسيتم تعطيل القوانين والتشريعات والمؤسسات الدستورية ويصبح رئيس الحكومة هو السلطة العليا في البلد. يرى البعض أن هذا النوع من الحكم مناسبٌ للفترة الحالية ويمكن تطبيقه على أرض الواقع في ظل ظروف يمر فيها البلد بأزمة تهدد وجود الدولة نفسها، وما يجري في الساحة السياسية من خلافات مستمرة، إضافة إلى المشكلات الاقتصادية التي لم تتمكَّن الحكومة من وقف طوفانها. بينما يذهب الآخر إلى أن وضعها كحكومة مستقلة عن القوى السياسية، على الرغم من اعتبار ذلك عودة إلى الديكتاتورية، فإنه سيجعل هذه القوى تعيد النظر في أدائها.
واقع الأمر أن السودان يعيش أزمة سياسية كبيرة بعد الثورة، وفي حال رضخت قوى الحرية والتغيير إلى تقديم قائمتها لتشكيل الحكومة على حسب ما وعدت به، فإن انقضاء فترة الحكومة المشكّلة سوف ينفتح على معارك أخرى أهمها معركة الانتخابات، إذ لن يكون بمقدور الحزب الفائز في الانتخابات تشكيل حكومة ناجحة بسبب الخلافات التي تُواجه بالطعن سواء في حالات التعيين أو الانتخابات. وهو ما يحيط الحكومة بتحديات أكبر من الماثلة حالياً في ظل تعقيدات المشهد السياسي ومطالب الأحزاب المتباينة.
يتسم نمط الحكم منذ الديمقراطية السابقة بأنه ليس فيه إجماع من قبل الشعب على أداء الأحزاب السياسية، وعندما جاءت “الإنقاذ” قضت على المؤسسات السياسية، فلم تعد متماسكة، ورسخت للبيروقراطية وتشوّه أداء الأحزاب السياسية بسبب ملاحقتها وقمعها وفرارها لمزاولة نشاطها من الخارج لفترة طويلة. وعندما عادت بدعوة من الحكومة السابقة التي أقدمت على تلك الخطوة كي تكسبها الأحزاب حيوية سياسية وتنشئ حزبها الحاكم وسطها؛ فلم تجد الأحزاب بداً من الانغماس في حكومة الوفاق الوطني مع النظام وفقدت بذلك قاعدة شعبية مُدخرة، كما عجزت عن أداء دورها السياسي بشكل تنظيمي.
جس نبض
لم يأتِ التلويح بحكومة الطوارئ بسبب التلكؤ فقط وإنما بسبب عجز الحكومة الانتقالية عن حل قضايا قطاعات حيوية مُلِّحة مثل الصحة والتعليم والقضية الاقتصادية. والأهم في هذه الحكومة ومن بعدها الحكومة التي من المفترض أن تُنشأ عاجلاً أنها ستكون مجرد تغيير شكلي لأفراد من مكونات سياسية تنقصها الفعالية السياسية والإحساس بمعاناة الشعب، والبلاد تسودها حدة النزاعات العرقية والقبلية، وغياب دولة القانون، كما يسود الشارع الشغب والعنف. وسبب عدم تفاعل الجبهة الثورية وقوى الحرية والتغيير بتقديم قوائم مرشحيهم مبكراً هو أنهم لم يتطوروا ككيانات سياسية، فالافتقار للتجربة أو عدم حيويتها يحدّ من إيجاد نظام سياسي. وما يدعو للدهشة هو أن تلميح الفريق البرهان بحالة الطوارئ لم يكن صادماً للأوساط السودانية، على عكس الرفض الذي وجده الإعلان في أواخر أيام الرئيس السابق عمر البشير، إذ تم فرضها في عهده عدة مرات كان آخرها في 22 فبراير (شباط) 2019 بعد تصاعد الاحتجاجات على حكمه، وشملت أحكاماً أخرى منها قمع المتظاهرين وسجنهم لمدة تصل إلى ست سنوات. وعارضتها الأحزاب السياسية وتجمع المهنيين باعتبارها وسيلة جديدة للتضييق على الحريات وممارسة القمع بحجة مواجهة مهدّدات الأمن القومي، ومكافحة الفساد. وهنا فُسِّر تلويح البرهان على أنه بمثابة جسّ للنبض.
دستورية الطوارئ
أثناء إعلان طوارئ فبراير (شباط) 2019 كان الدستور ينصُّ على ضرورة عرض حالة الطوارئ على البرلمان لإجازته قبل إعلانه وتعميمه، خصوصاً أن هناك ولايات كانت خاضعة لحالة الطوارئ وهي ولايات دارفور الخمس وشمال وغرب كردفان والنيل الأزرق وجنوب كردفان وكسلا. وبعد سقوط النظام مدّد المجلس السيادي حالة الطوارئ لمدة ثلاثة أشهر أخرى. أجازت الوثيقة الدستورية للفترة الانتقالية لعام 2019 لمجلس الوزراء أن “يطلب من المجلس السيادي إعلان حالة الطوارئ في البلاد، أو في أي جزء منها عند وقوع أي خطر طارئ أو كارثة طبيعية أو بيئية تهدّد وحدة البلاد، أو أي جزء منها أو سلامتها أو اقتصادها”. ونصت المادة (39) من الوثيقة الدستورية بأن يعرض إعلان حالة الطوارئ على المجلس التشريعي الانتقالي. كما حددت الوثيقة أن “إعلان حالة الطوارئ يسقط إذا لم يصادق عليه المجلس التشريعي، وتسقط جميع التدابير المتخذة بموجبه من دون أثر رجعي”. هذه الفقرة من ناحية قانونية قد تبطل إعلان الطوارئ، ولكن هناك ثغرة قانونية هي أن المجلس السيادي ومجلس شركاء الفترة الانتقالية يقوم مقام المجلس التشريعي.
مصالحة سياسية
على الرغم من رفض الشعب السوداني لتدخل الجيش في السياسة أو سيطرته على الحكم، خصوصاً أن ثورة ديسمبر (كانون الأول) 2018 قامت لإزاحة نظام عسكري وقبلها ثورتين شعبيتين على نظامين عسكريين أيضاً، في أكتوبر (تشرين الأول) 1964 وأبريل (نيسان) 1985؛ إلا أنه في ظل الحكومة الانتقالية قد تكون المفاضلة وفقاً لطبيعة علاقة الجيش بالأحزاب والجبهة الثورية، وعلى مدى تميز مؤسسة الجيش مقارنة بهذه القوى من مؤسسات مدنية. وفي الواقع فإن الجيش لا يظهر في واجهة الأحداث ظهوراً كاملاً فلا يزال يلعب بنصف إمكانياته وسلطاته.
والفارق الآخر هو سمة الإجماع بين المكونات العسكرية من جيش وشرطة وقوات وطنية، في مقابل التنافس المحتدم بين الأحزاب السياسية والذي يصورها بأنها في حالة خلافات دائمة في ما بينها. هذا بشكل عام بينما يُضاف إلى ذلك أن الأحزاب السودانية غارقة في مصالحها الشخصية وأمثلة ذلك في الحزبين التقليديين حزب الأمة والاتحادي الديمقراطي اللذين عاشا في ظل الانقاذ بالمناصب والامتيازات. هذه المواقف أفقدت الحزبين المنبر السياسي للجمهور ففقدا قدرتهما على التعبئة، لذلك ظهرت قوى الحرية والتغيير في شكل تحالفات هشة ومن غير لون سياسي مُحدَّد.
وعلى الرغم من الشكل المتماسك للجيش، فإن أي محاولة للقيام بانقلاب ستحدث خللاً في بنية النظام السياسي أكبر من الخلل الذي أحدثه النظام السابق. كما ستطرح محاولات إنجاح الانقلاب مهما يكن لفرض السيطرة وقد يتحول الأمر إلى قمع للمناوئين مثلما يحدث في كل الانقلابات، أو أن تحاول الأحزاب خلق واقع سياسي جديد يتواءم مع السلطة العسكرية. والعكس صحيح في حال غلبت الإرادة المدنية وظل الجيش في كامل سطوته، فإن قادته سيخلعون البزة العسكرية وينخرطون في العملية السياسية والحياة المدنية. ويحسم هذه التوقعات النظر إلى تدخل العسكر في السياسة وسيطرته على الحكم بناءً على النموذج الأساسي الذي نشأ عليه وعلى تركيبة المجتمع والأحزاب السودانية.
تدوير أفكار
لا يبدو أن ثمة مشروعاً سياسياً جديداً في الأفق، فكل القوى السياسية تعيد تدوير أفكارها وهنا تكمن الثغرة التي يمكن أن ينفذ منها العسكر. وعوضاً عن جني مكتسبات الثورة، تضافرت أحداث لتغير المشهد السياسي نحو مستقبل أشد تعقيداً. أولاً، تعقيدات إجراءات عمل لجنة إزالة التمكين وعدم استنادها إلى قانون ولوائح واضحة وشفافة، إذ تعهَّدت بإزالة آثار النظام السابق، التي شملت مكتسبات مادية متمثلة في شركات وأعمال عامة وخاصة. كما شملت أعمالها إنهاء خدمة المئات من وزارات مختلفة على رأسها وزارة الخارجية، والهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون وغيرها واستبدالهم بموالين سياسيين لقوى الحرية والتغيير، مما جعل اللجنة والحكومة في مواجهة اتهامات من كيانات خدمية بالفساد، واحتجاجات مكونات قبلية على استهدافها. ثانياً، استمرار سوء الأوضاع الاقتصادية، إذ تبدّى واقع أن الاستفادة من رفع العقوبات عن السودان والاندماج مرة أخرى في المجتمع الدولي والاستفادة من ذلك يحتاج وقتاً يستلزم إصلاحاً سياسياً داخلياً. ثالثاً، ضعف الوشائج السياسية بين قوى الحرية والتغيير وجذورها الحزبية، وتردُّد الجبهة الثورية ليس في دخول الحكومة، فهي حاربت من أجل قسمة السلطة والثروة، ولكن كأنها فُوجئت بحجم ما وفّرته لها هذه الحكومة من مناصب، وما يترتب عليها من التزامات وبُعدها الشديد عن السمة المدنية وغلبة العسكرية
المصدر : جريدة اندبندنت البريطانية