بالرغم من أن مواكب 19 ديسمبر لم يخلُ من حشود مقدرة لكنه مع ذلك لم يكن كما توقع الكثيرون من حيث العدد بمن فيهم المراقبون والمتابعون للشأن الداخلي ،
ولعل الأمر يتعلق بعدة تداعيات ومؤشرات في الساحة السياسية ، منها حدة الاستقطابات التي قامت بها عدة جهات متابينة الفكر والأيدولوجية تجاه الشباب عامة ولجان المقاومة بصورة خاصة .
ولعل من اكثر الاستقطابات المؤثرة هي التي قامت بها جماعة النظام البائد بطرق مختلفة وبشكل ممنهج شمل وسائط التواصل الاجتماعي كهدف رئيس من خلال التركيز على سوء الأوضاع الاقتصادية وضعف إدارة الدولة للملفات التي تتعلق بمعاش الناس، كما حاولوا ان يصوروا ان أيدولوجية الدولة علمانية وتسهتدف الدين مستشهدين ببعض التغيرات التي حدثت في المناهج الدراسية من تقليل عدد سور الحفظ للتلاميذ وغيرها ، كما تحاول دوماً الطرق على أن الشيوعيين هم الذين يحكمون البلاد بالرغم من أن الحزب الشيوعي ظل ينتقد الحكومة بل نادى مؤخراً بإسقاطها والمعروف أن خيار الإسقاط بذلك الطرح المكثف لا يمكن ان يكون مسلكاً تكتيكياً للحزب بل أقرب للخيارات الثابتة التي تتطلب التنفيذ على الأرض .
كما أن أنصار النظام السابق ومساندية المتخفين استخدموا في خططهم الرامية لتكريس أفكارهم المناوئة للحكومة والفترة الانتقالية باكملها عبر نهج الاعلام الجماهيري المباشر لكن باسلوب لا يعتمد هذه المرة على آليات الوسائط الاعلامية المختلفة أو الندوات السياسية، لكن من خلال نشر تلك الرسالة السياسية من خلال السمر السياسي الذي يقوم به أفراد النظام من خلال بعض تجمعات المواطنين في الأسواق أو مواقف المواصلات أو المركبات العامة .
كذلك فإن بعض التيارات السياسية ومن أهمها الحزب الشيوعي عمل منذ وقت مبكر بمحاولات استقطاب داخل لجان المقاومة ونشروا خطابهم السياسي الراديكالي الذي يرفض العديد من السياسات الاقتصادية للحكومة التي فرضتها الأوضاع الحرجة التي تمر بها والموروثة من النظام السابق كالتعامل مع الصناديق الاقتصادية الدولية ورفع الدعم الجزئي لبعض السلع المهمة، وكذلك بعض السياسات الخارجية التي انتهجتها الحكومة مثل التقارب مع الولايات المتحدة واقتراب التطبيع مع إسرائيل والذي كان مهراً غير معلن لاخراج السودان من قائمة الارهاب وهي خطوات يراها المحللون المستقلون بأنها تمثل براغماتية سياسية فرضتها الضرورات وكان لا بد ان تتخطى اي مفاهيم أيدلوجية أو سياسية متوارثة .
كذك من أسباب احجام العديد من الشباب الخروج في موكب التاسع عشر من ديسمبر هو يأس العديد من الشباب في حدوث أي تأثير تحولي يحدثه الموكب بالنظر إلى القضايا الشائكة التي تواجه الحكومة، وعدم التفاعل الكبير للحكومة رغم الضغط الشعبي تجاه تقصيرها في إحداث التحول المنشود الذي يصب ليس فقط من ناحية الاصلاح الاقتصادي لكن من حيث ضعفها في مجال محاكمة رموز العهد البائد بالقدر المطلوب، ذلك لأن العديد من المراقبين يشيرون إلى بطء سير هذا الملف وتقديم اتهامات لبعض رموز النظام السابق في مقابل تجاهل اتهامات ذات طبيعة أكبر .
كما أن اليأس الشبابي والجماهيري تجاه قدرة الحكومة على الاصلاح العاجل ناتج من مفهوم ان ذلك التحول لا يمكن أن يتم في ظل حكومة مدنية مكبلة بالوثيقة الدستورية التي سلبت الحكومة من حق الاشراف على جهاز الأمن ووزارة الداخلية، وعدم قدرتها على ارجاع المؤسسات الاقتصادية ذات الطابع التجاري من القوات النظامية إلى حضن ولايتها المالية، كلها عوامل ربما تسببت في إحداث شيء من اليأس أو خيبة الأمل لكن فيما يبدو أن معظم المتشائمين من حدوث تحولات عاجلة في تلك الملفات لا يؤيدون مع ذلك إسقاط الحكومة المدنية، باعتبار أن تلك الخطوة تشكل مخاطر على الفترة الانتقالية وتمهد للمغامرين لسرقة الثورة وأولهم قوى النظام السابق الذين يخططون للعودة عبر واجهات مختلفة وتحالفات تشمل قطاعات مؤثرة في الساحة الآن .
ربما كان تباين الرؤى السياسية لدى الثوار ولجان المقاومة هو الذي جعلت مواكب التاسع عشر من ديسمبر تبدو كجزر معزولة في تحركاتها وارتكازاتها وتباين شعاراتها المرفوعة .
وهو خطوة لا ينحصر تأثيرها في موكب السبت الماضي فقط لكن المخاوف هي أن تصبح ثمة ثابتة لدى كافة المواكب الثورية التصحيحية، الأمر الذي سيعيق مسيرة الاصلاح السلطوي ويشجع القوى الطامعة في القفز على سدة الحكم في البلاد .
المصدر: الانتباهة