موكب 19 ديسمبر.. مهددات في طريق الانتقالية!!
بالرغم من أن الحزب الشيوعي الذي دعا إلى قيام موكب هادر يوم التاسع عشر من ديسمبر الحالي يهدف الى إسقاط الحكومة وليس الضغط عليها كما كان يقول في أدبياته السابقة، لكن بداهة ليس من المتوقع كما يرى المراقبون يكون موقناً بتحقيق هذا الهدف الدراماتيكي عبر موكب واحد مهما حشد له من المناصرين .
والحدث يبرز عدة تساؤلات ملحة تبحث عن إجابات شافية ، فهل عكف الحزب الشيوعي على دراسة متعمقة للآثار المترتبة على هذا الموكب وعن مآلاته النهائية، فهل في حالة نجاحه الافتراضي إذا ما حّل البرهان المكون العسكري وقام حمدوك بحّل مجلس الوزراء، هل مكونات الحرية والتغيير جاهزة ومتوحدة لإيجاد البديل لمجلس الوزراء ؟ وهل سيعين البرهان مكوناً عسكرياً بديلاً ومقبولاً ، وهل سيوافق المكون الجديد على تعديلات في الوثيقة الدستورية تحد من صلاحياته وتنتزع منه حق الإشراف على أجهزة الأمن والقوات المسلحة ؟ وماهي تأثيرات الفراغ الدستوري في حالة قبول الشريكين على الاستقالة المستحيلة ، فهل سيمهد ذلك لانقلاب مغامرين جدد ومتحالفين مع النظام البائد لا يهتمون بمآلات فعلهم ومدي تأثير ذلك على الاستقرار في البلاد وعدم قبول المجتمع الدولي لهم سيما فهم جربوا وتطبعوا مع الحصار واستطاعوا ان يجدوا بعض المخارج مع بعض القوى الدولية والإقليمية في المنطقة عندما كانوا على سدة الحكم .
صحيح أن قبضة القوى المدنية على السلطة ضعيفة جداً، بل كانت مهددة إلى الاضمحلال في حالة تمرير مجلس شركاء الفترة الانتقالية ببنوده السابقة ، فعن طريق المواد الفضفاضة كان يمكن للمجلس المقترح أن يعيد لجهاز الأمن والمخابرات الصلاحيات القديمة استعداداً لتحولات القادمة أو في حالة قيام انتخابات مبكرة يدعو لها المجلس ، كما يمكن أيضاً للمجلس تعديل قانون الانتخابات لعام 1985 بما يتيح لبعض القوى العودة للحكم والمساندة لها كذلك ، كما يمكن لمجلس الشركاء إدخال تعديلات في قانون الصحافة والمطبوعات بغرض تقييد حرية الصحافة وكذلك قانون المعلومات للحد من تغريدات ومنشورات أصحاب الرأي المخالف للسلطة المتنفذة بوجهها الجديد الناعم .
كذلك من المتوقع عن طريق مجلس الشركاء إطلاق سراح عدد كبير من معتقلي النظام السابق بحجة تحقيق العدالة ، كما يمكن أيضاً لمجلس الشركاء أن يلغي لجنة التمكين واستبدالها بمفوضية للفساد على طريقة النظام البائد وإلغاء كافة قرارات اللجنة المتمثلة في المصادرات وإعفاء عدد من العاملين في الخدمة العامة .
لكن يبدو أن مجلس الوزراء والحرية والتغيير انتبهوا لكل هذه المحاذير فقاموا بالاعتراض على صلاحيات اللجنة الفضفاضة والتي من شأنها إذا تحققت بحسب المآلات القاتمة، أن تنسف تماماً ثورة ديسمبر المجيدة .وترجع البلاد إلى المربع الظلامي الأول .
كذلك من المسلم به أن البلاد تعاني من أزمة اقتصادية طاحنة وضعف إداري في العديد من المؤسسات الإنتاجية وعدم المتابعة الجادة للقرارات الاقتصادية وحماية الصادرات السودانية وسلع الصادر المهمة التي يتم تهريبها وإعادة تصديرها بأسماء الدول التي قامت بنهبها والتي تتكسب من ريعها الدولاري الكبير الذي يمد لسانه لكل القيم والروابط الأخوية .
لكن كل ذلك القصور كما يرى العديد من المتابعين للشأن الداخلي أن لا يعني أن يتم إسقاط النظام رأساً على عقب بالنظر إلى الإسقاطات الحرجة والمخاطر الكبرى التي يمكن ان تحيط بالفترة الانتقالية بأكملها وما قد يترتب بطبيعة الحال من إجهاض الثورة وأحلام الثوار التي سعوا إلى تحقيقها بالدم والعرق والاعتقالات والقنص من زبانية النظام البائد .
ربما يرى العديد من المحللين السياسيين أن بقاء جذوة الثورة متقدة في صدور شباب الثورة ورفض عودة النظام البائد ومناصرية من قبل القوى الجماهيرية وتجذره في العقل الجمعي ، وصدود المجتمع الدولي من القوى الظلامية وعدم قبول عودتهم للحكم أو حتى إلى مراكز النفوذ وإن بالوكالة، كلها نقاط يمكن أن تؤمن الفترة الانتقالية إذا ما تفهمت القوى الداعية لإسقاط النظام كل هذه المعادلات الحتمية .
ويرى العديد من المراقبين أن إخراج السودان من قائمة الإرهاب والإسقاطات الإيجابية لهذا القرار على الاقتصاد الوطني ، ووقوف الولايات المتحدة مع الحكومة المدنية كقوة عظمى ومؤثرة ليس فقط على المستوى السلطوي هناك بل حتى التشريعي رغم التبيانات السياسية في تلك البلاد وتقاطع المصالح، فقد ظهر ذلك جلياً في قرارات مجلس النواب الأمريكي الأخيرة التي هدفت إلى تقوية الحكومة المدنية وتحقيق التحول الديمقراطي بسلاسة دون معوقات أو مطبات مستترة ، وكلها تعتبر مؤشرا إذا أحسنت الحكومة المدنية استغلالها بشكل جيد فيمكنها عندئذ أن تحقق حلم العبور المنتظر ، لكن بالتأكيد فالحكومة تحتاج إلى تجديد دمائها ومراجعة مسارها ، سيما فقد استبانت لها العديد من الرؤى ومن تجربة الشراكة مع العسكريين وما صاحبها من بعض التقاطعات والتجاذبات والتباينات .
إن الكثيرين يأملون أن تمر الفترة الانتقالية بسلام وتحقق أهدافها المنشودة بيد أن ذلك لا يتم إلا عبر معارضة مستنيرة غير متشجنة تخلط بين العمل الثوري والرؤى السياسية التي تحتاج إلى شيء من البرغماتية الإيجابية والقدرة على استبطان المخاطر وعدم مقايضتها بمكاسب عابرة أو منطلقات إيدولوجية جامدة غير قابلة للتكييف رغم أنف المستجدات الظرفية .