في مصلحة من ستكون السياسات الاقتصادية للحكومة ؟
لا يٌمكن فهم الاتجاه الاقتصادي للحكومة الحالية بمعزل عن فهم الاقتصاد السياسي الذي يُفسر طبيعة القوى التي تسيطر على الحكم وتوضيح مصالحها. فالتحليل الاجتماعي والطبقي يُفسر لنا التركيب الاقتصادي والاجتماعي للسودان منذ الاستعمار و إلى اليوم , ونضيف له أهمية الدراسات الاجتماعية التاريخية ذات الطبيعة الوصفية والإحصائية. لكن ما نراه اليوم من الخبراء الاقتصاديين (النيوليبراليين) داعمي الحكومة هو تقديم حجج تتجاهل هذه النظرات العلمية التي تكشف الحقيقة الكلية للسياسة بأبعادها الشاملة لصالح نظرة أحادية اقتصادية بالمعنى الذي رسخ لعلم الاقتصاد في شقه الكلاسيكي الرأسمالي الليبرالي. هذا التجاهل في غالبه تجاهل متعمد يعكس انحيازا طبقيا و آيديولوجيا لهؤلاء الاقتصاديين و لغالبيتهم مصلحة في ذلك , أو هو تجاهل ناجم عن جهل و سذاجة من نوع تلك السذاجات التي تٌصيب بعض الأكاديميين حين يمنعون عقولهم من التفكير خارج صندوق الأكاديمية الذي تم تلقينهم إياه , هؤلاء بالذات لن يقدموا إسهاما جديدا في المجال العلمي و سيكتفون طوال عمرهم بتكرار حرفي لمحاضرات تٌدرس في القاعات.
ما أجادل فيه هنا هو ضرورة العودة للتاريخ قليلا لفهم التركيب الحالي للدولة و لفهم في مصلحة من سيكون رفع الدعم و جملة السياسات الاقتصادية للحكومة ؟ السودان دول شكلها الاستعمار وربطها ربطاً بنيوياً بالسوق الرأسمالي لدول المستعمر , على هذا الاتجاه نشأت الخدمات و قامت المدن و نشأت طرق المواصلات والسكك الحديد . لا يُمكن فهم مشروع مثل مشروع الجزيرة إلا بإعتباره مشروعا رأسماليا استعماريا لتصدير القطن يخلق من المشاكل الغذائية والبيئية والاجتماعية على المدى البعيد بأكثر مما يترك من خيرات للأهالي و البلاد. على ذات هذا النمط خلق المستعمر نخبة رأسمالية محلية من مٌلاك وتجار في القطاع الزراعي و تصدير المواشي و لاحقا تحول قليل منهم للنشاط الصناعي بعد الاستقلال. تتبٌع هذا التاريخ للرأسمالية السودانية التي لم تؤد دورا وطنيا حقيقيا يعكس تحالفا راسخا بينهم وبين كبار البيروقراطيين في الدولة. هذه الطبقة تحالفت و أختطفت الدولة لصالح تحقيق مصالحها وهذا الأمر تقوم عليه شواهد عديدة في ملكية الأراضي و قوانين التجارة والاستثمار والزراعة..الخ طوال العهود السياسية المختلفة في السودان.
هذه الطبقة نفسها خرجت منها النخبة السياسية الرئيسية التي حكمت السودان بالذات في الأحزاب الطائفية (الإتحادي-الأمة) بزعاماتها التاريخية . كذلك كانت الحركة الإسلامية ذات توجه يميني رأسمالي بأثر من الأموال الخليجية منذ السبعينات و بسبب تركيزها على المقاومة الثقافية الفوقية للاستعمار وتجاهل التحليل الاجتماعي والطبقي. حتى اليسار السوداني و لخلل معرفي بنيوي كبير في تفكيره أصابه انتهى ليسار ليبرالي ثقافي أزمته مع الإسلاميين و مع القوى الإجتماعية المحافظة.
كانت الدولة دوما هي الأضعف أمام القطاع الخاص و صفوة المٌلاك والتجار الكبار وجميعهم مرتبطين بالرأسمال الأجنبي . السودان بذلك التوجه الذي نجد جذوره منذ مرحلة الاستعمار هو دولة تبعية مطلقة للنظام الرأسمالي الخارجي بكامل عيوبه و أهمها وقوفه حجر عثرة أمام تطور مجتمعاتنا حتى في نمط رأسماليتها المحلية. لأن التعاطي الخاضع والتابع للخارج يٌكرس بقاءنا في أدنى سلسلة التقسيم العالمي للعمل فنظل في نشاط اقتصادي قائم على التجارة في المنتجات الزراعية والحيوانية فقط. مع استهلاك كبير للسلع الواردة من الخارج في شتى المجالات.
رفع الدعم هو الهروب الأخير لهذه الطبقة الرأسمالية من دفع ثمن الدولة . هروب من دفع ثمنها لصالح الفقراء و الكادحين و الطبقة الوسطى التي يزداد فقرها يوما بعد يوم . الدولة مٌعضلة حقيقة عند هؤلاء الرأسماليين وفكرهم الليبرالي حيث أنهم كما يقول المثل السوداني ( لا بريدك لا بحمل براك ) . هم يريدون من الدولة حمايتهم و حماية مصالحهم و من غيرها لن تكون هناك قوانين تخدمهم وفي ذات الوقت ينظرون لديونها السيادية كأزمة ويسعون وفق ذلك لتقليل الإنفاق الحكومي على تلك السلع الأساسية التي تؤثر على حياة غالب المواطنين. يرغبون من جميع الطبقات دفع الثمن ليتحصلوا على الأرباح وحدهم . وهذا يتلازم مع نظرة تنميطية للعامل السوداني بإعتباره عاملا كسولا كثير الغياب غير منتج و بوصمة استعلاء وكراهية للحد المقرف من مجتمعات السودانيين العاديين.
رفع الدعم سيكون في مصلحة الطبقة الغنية والأثرياء التاريخيين والجدد و لكنه لن يكون في مصلحة غالبية الشعب السوداني , سياسات الحكومة الإقتصادية هي سياسات تبعية للخارج و خضوع غريب ومخزي لا يُمثل الثورة السودانية و لا أهدافها . و الحلقة الأسوأ في ذلك هو أن منطق المصلحة نفسه لا يدعم هذا التوجه لأن شكوكا كبيرة تحوم حول جدوى هذه السياسات في تحقيق نتائج على مستوى المؤشرات الكلية للاقتصاد والنمو الاقتصادي , وهي مؤشرات لا تعكس توزيع الثروة والرفاه الاجتماعي الذي تترجمه إنفاقات الدولة في التعليم و الصحة وغيرها.
الصراع السياسي حول هذه السياسات ليس صراعا حول الحقيقة العلمية المٌحايدة بحسب نظريات الاقتصاد البرجوازي بل هو صراع بين طبقة مستفيدة من هذه السياسات لارتباطها بمؤسسات رأسمالية وامتلاكها قوة مادية ستزداد مع هذه السياسات وبين غالبية ستزداد فقرا و بؤسا جراء تطبيق هذه السياسات . وإذا كان ثمة حقيقة علمية تُخبرنا بها العلوم الاجتماعية فهي حقيقة هذا الصراع وليس أي شيء آخر .
بهذا المعني فإن الديمقراطية والحريات العامة ضرورية لأنها الوسيلة الوحيدة الممكنة لمواجهة هيمنة الدولة و طبقتها ولإدارة الصراع بأدنى حد من العنف , كذلك مهمة لكشف زيف الدعايات التي يعكسها الإعلام الرسمي للدولة. هذه الحرية السياسية التي نشهد تجاوزات عديدة في حقها هي المكسب الجوهري الأهم بعد ثورة ديسمبر 2018 و من غيرها سيخسر السودان و غالبية أهله الكثير في سبيل التحرر و العيش الكريم .
السوداني